انطلق أمس في «متروبوليس أمبير صوفيل» مهرجان «شاشات الواقع» مع مجموعة من الأفلام الوثائقية العربية والأجنبية التي يعرض أغلبها للمرة الأولى في بيروت. في «أرق» (27/3 ـــ 2013) للمخرجة اللبنانية ديالا قشمر الحائز جائزة لجنة التحكيم الخاصة في «مهرجان دبي السينمائي» (2013)، تأخذنا المخرجة إلى حي اللجى، تلك المنطقة التي تقع خلف شارع مار الياس في بيروت والمشهورة بـ«زعرانها» أو «قبضايتها».
عبر حواراتها ومواكبتها للحياة اليومية لهؤلاء «القبضايات»، تنجح المخرجة في اختراق دفاعاتهم، بل أكثر من ذلك. تقودهم بسلاسة إلى التحليل الذاتي والتشكيك بصورتهم عن أنفسهم. على عكس ما قد يتوقع المشاهد في البداية، يبدو هؤلاء القبضايات أحوج ما يكون إلى البوح. هذه الكاميرا التي يخشونها في البداية وتقتحم فجأة خصوصية هذا العالم المغلق على نفسه، سرعان ما ينجذبون إليها كأنها ذلك الضوء الذي سلط فجأة على حياة في العتمة. تفكك المخرجة مفهوم القبضاي تدريجاً. خلف قناع القوة التي لا تقهر، ينكشف لنا البؤس الذي تعيشه هذه الشخصيات وتعيه تماماً من خلال الأسئلة التي تطرحها المخرجة. مثلاً، حين تسألهم عن حياتهم العاطفية، يجيب أحدهم: «مين اللي بدها تحبنا؟ يا حتهج يا حتروح سكتة قلبية». أو لدى سؤالها كيف يتخيلون أنفسهم بعد عشر سنوات، يقول لها أحد الشبان إنها ستعثر عليه جالساً على الكرسي نفسه، بينما يرد آخر بأنه قد يموت غداً.
في «أسمهان ــ ديفا شرقية» (اليوم ـــ 2013) لسيلفانو كاستانو الذي اشترك مع الروائية اللبنانية إيمان حميدان في صياغة السيناريو، يبحث المخرج في حياة المطربة أسمهان (1917 ـــ 1944) التي يحيط بها الغموض، كما الحادثة التي أدت إلى موتها. يتنقل المخرج الإيطالي مع الروائية إيمان حميدان من مكان إلى آخر في مصر بحثاً عن شهادات أو وثائق يعيد عبرها تجميع أجزاء حياة أسمهان: نشأتها في جبل العرب في سوريا، هجرتها وعائلتها إلى مصر، بداية معرفتها بالموسيقى ثم احترافها الغناء إلى حين قرار طردها من مصر. وترجّح الأبحاث التي أجرتها إيمان حميدان أنّ هذا الطرد جاء بقرار من الملكة نازلي بسبب إعجاب الملك فاروق بأسمهان. في مقابلة مع كاميليا ابنة أسمهان في لبنان، سيفاجأ المشاهد بأنّها بالكاد تعرف شيئاً عن حياة أمها منذ أن تركتها وغادرت مجدداً إلى مصر. ينطلق الفيلم من فرضيات عديدة يسعى إلى نفيها أو تأكيدها كعمل أسمهان مع الإنكليز والمهمة التي أوكل لها تنفيذها في جبل العرب، وما إذا كان لهم دور في قتلها أم أنّ زوجها الأخير أحمد سالم أو حتى أم كلثوم كما تقول الشائعات. عبر رحلة البحث في حياة أسمهان، يعود بنا الفيلم إلى حقبة أكثر انفتاحاً باتت منسية من تاريخ مصر اليوم. ليست هي فقط هوية مزدوجة حملتها الأميرة آمال الأطرش/ أسمهان، لكنها أيضاً حيوات متعددة عاشتها. لا يبدو واضحاً أياً منها قد اختارت أو فرضت عليها. الجواب على هذا السؤال يكمن ربما في المشهد الأخير الذي يختتم به الفيلم. نرى قبر أسمهان الذي دوِّن فوقه كلمة فنانة بخلاف قبر أخيها فؤاد الذي احتفظ بلقب أمير، ما يؤكد الهوية الوحيدة التي اختارتها ولا يلفها الغموض.
«تاء التأنيث» (29/3 ـــ 2013) للمخرجة اللبنانية كورين شاوي، يمتاز بحميميته. تصور المخرجة نساء يعشن في مدينة بيروت ويبحن بتفاصيل حيواتهن الخاصة وعلاقاتهن العاطفية على مدة خمس سنوات، تراقب فيها التغيرات التي مررن بها. في أسلوبه الروائي، يعتمد الشريط أكثر على اللغة السينمائية ليخلق تفاعلاً صامتاً بين المخرجة وشخصياتها عبر الكاميرا التي تمتاز أيضاً بجمالية خاصة، تعبّر عن الحميمية التي تؤسس لها المخرجة. تراقب تفاصيل الوجوه وتحركاتها الصغيرة وانعكاسات الضوء، لكنها تبدو في أحيان أخرى مربكة ومبعثرة ولا تنجح في بناء خط درامي متماسك يصل أجزاء الفيلم ببعضها. في الوثائقي المصري «الميدان» (26/3 ـــ 2013) لجيهان نجيم الحائز جوائز عدة في «مهرجان دبي السينمائي» و«مهرجان تورنتو»، بالإضافة إلى ترشيحه لجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي، نتابع يوميات الثورة المصرية في ميدان التحرير منذ اشتعالها وكل التحولات والإحباطات المتكررة التي مرت بها بينما يصارع الشباب المؤمن بقضيته بشتى السبل لإبقاء الأمل في النفوس ومتابعة النضال. يكتشف شباب الثورة أهمية الكاميرا وشبكات الإنترنت في توثيق الواقع ونقله، تلك الوسيلة الوحيدة المتاحة لكشف فساد السلطة. إيقاع الفيلم الحيوي ينقل نبض ميدان التحرير ويوثق أحداث الثورة المصرية. أما في «فيفي تصرخ من الفرح» (25/3 ـــ 2013)، فتبحث المخرجة الإيرانية ميترا فرحاني عن الرسام الإيراني بهمن محسّس الذي اختفى منذ ثلاثين عاماً وتعثر عليه أخيراً في روما حيث يعيش في عزلة اختيارية. شهران تمضيهما المخرجة برفقة محسّس في غرفته قبل موته تحاوره فيها. أغلب لقطات الفيلم التي تحاور فيها المخرجة محسس صوِّرت داخل الغرفة نفسها. لكن المخرجة تؤسس عبر ذلك الديكور الموحّد للغة سينمائية خاصة، إذ تمزج بين الصورة والرسم ونصّها الروائي الذي يواكب شخصية محسّس بطرافتها وذكائها، خالقة إيقاعاً درامياً تجريبياً فريداً من نوعه.
أما في «هبوط اضطراري» (28/3 ـــ 2013) للمخرج الإيراني كافيه بختياري، فننتقل إلى الشقة الصغيرة لأمير، ذلك المهاجر الإيراني الذي يعيش في أثينا. تحوّل الأخيرة إلى ملجأ لكل الذين هاجروا من بلادهم بطريقة غير شرعية، في انتظار أن يجدوا طريقة ما لاستخراج أوراق ثبوتية أو للسفر إلى بلد آخر. يصوّر المخرج خوف المهاجرين من القبض عليهم أو ترحيلهم: الضوء، الجيران، نظرات الآخرين، كل ما يمثله الخارج يتحول إلى مصدر رعب وقلق لهؤلاء الأشخاص الذين ــ وللمفارقة ــ ينبغي لهم أن يلغوا وجودهم بالكامل كي يضمنوا حقهم بالوجود. أما الفيلم الاختتامي للمهرجان «أيار الجميل» (30/3 ــ 1963) فهو إخراج مشترك بين كريس ماركر (1921 ــ 2012) وبيار لوم (1963). يصوّر الفيلم باريس مباشرة بعد انتهاء حرب تحرير الجزائر التي انتهت باتفاقيات إيفيان. في هذا الفيلم الذي ينتمي إلى الموجة الجديدة في السينما الفرنسية، يصوّر المخرج والمصوّر والكاتب الفرنسي الشهير الصمت الممتزج بالخشية الذي سيطر على باريس. فترة انتقالية عاشتها المدينة التي بدأت تخرج ببطء من حدادها ومن الحادثة العنيفة للمتظاهرين الذين قتلوا في مترو شارون أثناء احتجاجهم على الحرب ضد الجزائر. يترافق الشريط مع نص من كتابة ماركر وقراءة المغني الفرنسي إيف مونتان تتخلله حوارات ومقابلات مختلفة يجمع بينها ليبني إيقاعاً أشبه بالروائي لحياة المدينة.



«شاشات الواقع»: حتى 30 آذار (مارس) ــ «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية، بيروت) ـ كل العروض تبدأ عند الثامنة مساء ـــ للاستعلام:01/204080 ــــ
http://www.metropoliscinema.net