«ألا تتمنين أحياناً لو كنت ذكراً؟» تسأل سكايلر (تؤدّي دورها تاليا رايدير) ابنة عمتها أوتامن (سيدني فلانيغان في أول دور بطولة لها) في «أبداً، نادراً، أحياناً، دائماً» (101 دقيقة – 2020) فيلم الدراما الأحدث للمخرجة الأميركيّة إيلزا هيتمان (متوافر على غوغل بلاي و«أمازون برايم» ويوتيوب). سؤال فجّ يلخّص معاناة النساء المعاصرات – وبخاصة الشابات الصغيرات منهن – اللواتي يقرّرن لأسباب مختلفة التخلّص من حملهّن في مواجهة دوائر متراكبة من هيمنة البطريركيّات المتخلّفة على مصائر البشر، وتخلّي الدّولة – في نموذجها الأميركي على الأقل – عن دورها تجاه مواطنيها لمصلحة تأبيد هيمنة النخبة الرجعيّة في فضاء الرأسماليّة المتأخرة الفاسد. تدور حكاية الفيلم حول «أوتامن» ابنة الـ17 عاماً التي تعيش في بيت أسرة مفككة تكافح لكسب القوت في إحدى البلدات الباهتة للطبقة العاملة في ولاية بنسلفانيا وتتعرّض للاغتصاب من صديقها في المدرسة، لتظهر عليها تالياً أعراض الحمل. ولأنها تجد ذاتها غير جاهزة أبداً للعب دور الأمومة لا نفسيّاً ولا اجتماعيّاً ولا ماديّاً، تقرر أن الإجهاض هو أفضل خياراتها الممكنة. لكن «الممكنة» هنا تبدو مجازيّة أكثر منها واقعيّة، إذ تكتشف الصبيّة الغرّة على حسابها الشخصيّ أنها وحيدة في مواجهة دائرة متراكبة جهنميّة من القهر الطبقي والاجتماعي والثقافي والمؤسساتي على نحو يجعل من رحلة الحصول على الإجهاض في أميركا القرن الحادي والعشرين تجربة وجوديّة شديدة القسوة على النساء نفسيّاً وجسديّاً غالباً ما تطبع حياتهن إلى الأبد، بذكريات كثيفة من الذّعر والألم والوحدة والإذلال والخجل واليأس الخانق.


تحاول أوتامن كما قد تفعل أي فتاة في عمرها لا يتوافر لها دعم عائليّ أو مجتمعيّ التخلّص من الحمل بطرق بدائيّة كتناول الأدوية أو إيذاء نفسها، قبل أن تتجرأ على الذهاب إلى العيادة المحليّة المعنية بالحمل والولادة. وهناك يتبين أن المؤسسة الطبيّة معادية للإجهاض من حيث المبدأ، بل يتظاهر خارج العيادة «أنصار الحياة» من المتدينين المتطرفين الذين يعتبرون الإجهاض قتلاً وحراماً مهما كانت مبرّراته، وتحاول غاية جهدها ثني الصبيّة عن سعيها وتجبرها على مشاهدة فيلم يعادل الإجهاض بالجريمة. وعندما تظل مصرّة على خيارها، تصطدم بقانون محليّ في الولاية يفرض على من هي دون 18 عاماً الحصول على موافقة والديها المسبَقة لإجراء الإجهاض. وتلك مسألة غير واردة عند أوتامن حيث زوج والدتها رجل سكير جاهل وذكوريّ تقليديّ وأمّها امرأة خانعة في نظام اقتصادي – اجتماعيّ لا يرحم. في العيادة، تعيش أوتامن ربما أقسى لحظات الحكاية، وهي تُستجوب بمجموعة أسئلة (إجباريّة) محرجة تراوح إجابتها في اختيارات بين أبداً، نادراً، أحياناً، دائماً (ومنها اسم الفيلم) تتعلق بتجاربها الجنسيّة السابقة. مشهد قاسٍ نجحت فلانيغان في تأديته باقتدار، بينما قبضت عليه الكاميرا بالكامل دون وجل.
فشل أوتامن في الحصول على الإجهاض في بلدتها الطرفيّة يدفعها للمغامرة بالسفر برفقة ابنة عمّها سكايلر – من جيلها – إلى عيادة في بروكلين في نيويورك. هناك في المدينة الهائلة الشديدة البرود تجاه الأفراد التائهين الغرباء، تتراكم الصعاب في وجه الفتاتين لا سيّما بعدما تبيّن لهما أن غاية رحلتهما لن تتحقق في يوم وليلة، فيما نفدت نقودهما القليلة وأصبحتا عرضة لنهش الذئاب الذكوريّة التي تكاد تنتشر في كل مكان بحثاً عن ضحايا ومستضعفات.
في دراما الفيلم، خطوط موازية للحكاية الأساس ومنها ذلك التضامن النسوي بين الصبيتين – رغم شعور أوتامن بالوحدة والعجز عن البوح في لحظات عدّة – والدّور السلبي الذي يلعبه جميع الذكور تقريباً في كل محطات رحلتها (المدرسة والبيت والطريق والعيادة ....) بلا وعي ربما، ولكن على نحو يظهر مع تقدّم الأحداث في الشريط كقطع تتراكب رويداً رويداً لترسم صورة قاتمة عن نظام معقّد متشابك معاد بكليته للنساء اللواتي يخرجن عن سلطة المجتمع ويقف حجر عثرة في طريقهن أينما أدرن وجوههن. وهو بذلك لا يقع في مطبّ الأفلام التي قدّمت مسألة الإجهاض سابقاً كصراع سايكولوجي ذاتي في ذهن المرأة للوصول إلى القرار. «أبداً، نادراً، أحياناً، دائماً» يوظّف حكاية الإجهاض الفرديّة للتصويب على المنظومة برمّتها.
تقنيّاً ينبغي التنبيه هنا إلى أن الفيلم ذو ميزانيّة محدودة، وقد تبدو بعض أجزائه أقرب إلى عمل وثائقيّ منه إلى دراما، وتكثر فيه الحوارات، والممثلون فيه ليسوا نجوماً معروفين، لكنّ ذلك تحديداً ما يجعله أقرب إلى الواقع، وتجربة سينمائيّة استثنائيّة تضاف إلى رصيد تجارب المخرجة هيتمان السابقة، أقرب للشعر منها إلى الاستعراض البصري المعهود في السينما الأميركية التقليديّة. هذا فيلم للعقل وإن منحته السيماتوغرافر (هلين لوفير) لمسة فرنسيّة ظاهرة في التقاط اللحظات المؤثرة عندما يتوقف الكلام والتركيز على انفعالات الشخصيات وتحقيق التوازن بين التغيرات في تضاريس الوجع والخيبة على الوجوه وتضاريس جغرافيا الرحلة من بنسلفانيا إلى نيويورك.
يصعب ربّما فهم الفيلم دون معرفة بعض الحقائق عن الصعوبات المؤسسيّة التي تفرضها السلطات البطريركيّة على الإجهاض في الولايات المتحدة عشيّة العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. في العام الماضي وحده، أقرّت 12 ولاية أميركيّة قوانين تقيّد الإجهاض، ومنها ما يشترط إجراءه قبل مرور ستة أسابيع على الحمل – وهي فترة لا تدرك معظم الفتيات فيها حالتهن – فيما تخطط ولاية ألاباما لتحريمه بالمطلق هذا العام في سياق موجة متصاعدة من مناهضة الإجهاض يقودها اليمين الدينيّ المغرق في تطرفه والمتحالف مع ترامب. ومن المعروف أن بعض الولايات (تكساس وأوهايو مثلاً) استغلّ فترة الإغلاق خلال جائحة كورونا لوقف كل عمليّات الإجهاض بوصفها اختياريّة وغير أساسيّة.
بالطبع لن يملك المشاهد في بلادنا ألا يُسقط تجربة الفيلم على مجتمعاتنا العربيّة حيث كل العوائق الأميركيّة أمام النساء للتخلّص من الحمل تبدو مجرّد كاريكاتور هزليّ عن طبقات المشقّة والقسوة والمخاطرة التي ستواجهها فتاة شرقيّة سواء كانت عزباء، أو متزوجة، حبلت بالخطأ أو نتيجة اعتداء، في إطار علاقة «شرعيّة» أو غير شرعيّة – لا فرق، وحيث تتم معظم تلك العمليّات بالسرّ في عيادات غير قانونيّة، وفي أجواء قاتمة، وكثيراً ما تودي بحياة النساء أو تؤذي قدرتهن المستقبليّة على الإنجاب. وللحقيقة، فإنه رغم قصته وأجوائه الأميركيّة المحض، إلا أن الطرح في الفيلم إنساني يُترجم بسهولة على أوضاع معظم المجتمعات المعاصرة متقدّمة أو متخلّفة على حد سواء.
«أبداً، نادراً، أحياناً، دائماً» دراما واقعيّة مؤلمة تستحق المشاهدة عن تجربة قد تتعرض لها أيّ من النساء اللواتي قد تنتهي أي منهن لسبب أو آخر إلى قرار الإجهاض. قرار يدخل صاحبته حتماً – لا سيما إذا كانت من الطبقة العاملة – في مواجهة حادة ومباشرة مع كل مساوئ النظام الاجتماعي البطريركي المتخلّف الذي ترعاه وتسمّنه وتمدّ في عمره الرأسماليّة المتأخرة في الغرب، كما هياكل الحكم المتخلّف في الشرق.

* Never, Rarely, Sometimes, Always: متوافر على غوغل بلاي و«أمازون برايم» ويوتيوب

كاميرا حنونة تربت على شخصياتها النسائية | إليزا هتمان: الإجهاض كما لم يقدّم من قبل