في عرضه الجديد «خدني بحلمك مستر فرويد» الذي قدِّم أخيراً على خشبة «مسرح مونو»، يطرح جلال خوري (1934) مساءلة نقدية لمفاهيم مسرحية وسياسية واجتماعية وتاريخية ودينية. هذه المساءلة تأتي من خلال نقاش يدور بين مخرج وممثلة في صالة التمارين حول مسرحية كتبها الأول عن أخناتون وزوجته نفرتيتي.
انطلاقاً من هذه الوضعيّة، يقترح خوري مواجهة على مستويات عدة: إنّها أولاً مواجهة بين رجل وامرأة، لكنّها تحمل في مكنوناتها مواجهة أعمق بين مخرج (فادي متري) وممثّلة (مي سحّاب)، بين جيلين؛ وبين الماضي والحاضر؛ وبين المسرح والجمهور؛ وبين إشكالية المسرح الحقيقية والسائد في المسرح؛ وبين التوحيد والإرهاب. لعل أهم أفكار العرض هي علاقة التوحيد بالإرهاب. كأنّ خوري يُرجع أصل الإرهاب إلى التوحيد الذي أتى به أخناتون إلى العالم منذ حوالى 3300 سنة. يعتبر خوري أنّ أهمية طرحه المسرحي تكمن في جدلية الإنسان مع مسألة الإيمان، إذ لطالما برز المسرح في العصور المختلفة يطرح تساؤلات لا يجيب عنها الدين.
يعتبر خوري أنّ عمله يجسّد صراعين هما صراع أفقي قوامه الرجل والمرأة، وعمودي مع السلطة، وهو الصراع العمودي والأفقي الذي لطالما اتبعه شكسبير في مسرحياته على عكس بريشت الذي تناول فقط الصراع العمودي مع السلطة، رغم أنّ عرض خوري ينبض بتقنيات بريشتية فجّة من حيث الشكل وتركيبة النص. يطرح النص نقاشاً كنقاشات بريشت لإعادة النظر في المفاهيم السائدة والمسلّمات الراهنة ليضع الجمهور في موقع الحكم من هذه المواجهات. المواجهة على المستوى الأول هي مواجهة بين الرجل والمرأة التي تحمل في طياتها مواجهة بين المخرج والممثلة. يحاول الاثنان العمل معاً بعد فترة طويلة من انتهاء علاقتهما المهنية والجنسية لكنهما يستحضران الماضي ويستعيد كل منهما دور الآخر، فندخل في لعبة الأدوار بين المخرج والممثلة وشخصيتي مسرحيتهما أخناتون ونفرتيتي ضمن لعبة المسرح داخل المسرح. تلتقي الأدوار ببعضها، وتتبادل أدوارها حيث ينطق الرجل والمرأة بما يجول في خاطرهما على لسان الشخصيتين اللتين يلعبانهما أو تحكي الشخصيتان بلسانهما. لا يعود هناك فاصل بينهما وبين شخصيتي أخناتون ونفرتيتي في نهاية العرض.
في هذه المواجهة، يسائل خوري علاقة المخرج بالممثلة. يجد كل منهما أنّ الآخر يستغلّه جنسياً وعاطفياً كي يصل إلى مبتغاه. من خلالها، يطرح خوري المواجهة بين جيلين مسرحيين: جيل المخرج الكبير في السن وجيل الممثلة متوسّطة العمر، اللذين تختلف لديهما الرؤية في إشكالية المسرح. غالباً ما يتكلّم الرجل بلسان الكاتب خوري، فتصبح للمشهد خلفية مشهدية أخرى، حيث يواجه خوري جمهور ومسرحيي جيل الشباب اليوم على لسان شخصياته. يطرح الرجل فكرة تدور حول أخناتون والتوحيد، لكنّ المرأة تهزأ من موضوعه الذي لن يفهمه جمهور اليوم، وتروح تشد نحو مفاهيم فرويد «الحديثة» نسبياً في مقاربة موضوع أخناتون الغابر، ما يؤكّد صراع الأجيال والتناحر بين المدارس المختلفة.

يُرجع أصل الإرهاب إلى التوحيد الذي أتى به أخناتون إلى العالم منذ حوالى 3300 سنة


لم ينفك خوري يسخر من مسرح اليوم وجمهوره من خلال استشهادات المرأة التي تشير إلى أعمال مسرحية أخرى، فتقول للمخرج «بلكي هون بتدخِّل فرقة دبّيكة، وبتبعتهن ع العالم السفلي، يعبروا لأخناتون عن موقفك، تتغيّر جو. غيرك بعت الدبّيكة اللي عندو، يهنّوا سقراط. وعينك تشوف أدّيش انبسط الجمهور، وزقّف.». وبينما تحكي الممثلة عن تلبية بعض المسرحيين لما يريده الجمهور، يضع خوري الجمهور في الصالة تحت مسؤولياته ويتوجّه إليه مراراً خلال العرض الذي ينتهي بفكرة أن ينهي الجمهور نفسه المسرحية «ع ذوقه» (مسرحية خوري ومسرحية الشخصيات معاً). رغم أهمية المواجهة بين الممثلين والجمهور، إلا أنّها لم تكن مشبّعة بالوَاقْع الذي يُفترض أن تكون عليه. لم تكن العلاقة بين العرض والجمهور قد تبلورت منذ البداية. بدأ العرض على أساس وجود جدار رابع. بعد مرور وقت، اكتشف الجمهور أنه حاضر حين توجّه اليه الممثلان بالكلام، ولم يكن ذلك منطقياً للمتلقي لأن مكان العرض هو صالة التمارين المقفلة، فلمَ يكن هناك جمهور حاضر فجأة يتواصل معه الممثلان؟ وإذا كان خوري يهدف إلى خلق مفهوم «الآن وهنا»، فكان من الأفضل طرح ذلك منذ البداية أو من خلال طريقة معالجة تسمح بذلك. سرعان ما يرجع سير الأحداث على أساس الجدار الرابع لكنه يكسر بعد ذلك من أجل التواصل مع الجمهور مجدّداً وهكذا دواليك من دون استمرارية لهذا التواصل.
لعبة التمثيل التي يرتكز عليها النص بأدواته لم تكن ممسوكة. في حين جذبت مي سحّاب الجمهور الى حد ما بعفويتها وكان صوتها خفيضاً، كان إلقاء فادي متري ذا لهجة خطابيّة مصطنعة وبصوت عال. هذا الفرق بين التقنيات الصوتية وأسلوب الأداء عكس إدارة تمثيل فلتت من زمامها الأمور. قد يكون النص قد مثّل أحد أسباب أزمة التمثيل، وأيضاً التواصل مع الجمهور، بسبب اللغة المستخدمة التي تأرجحت بين العربي الفصيح واللهجة الدارجة. مع ذلك، فإنّ عرض جلال خوري يتّسم بنص يطرح إشكاليات مهمة في زمننا المعاصر تمتد من أيام أخناتون إلى إرهاب اليوم وإلى مسرح اليوم وإلى علاقة الرجل بالمرأة وتطوّرها عبر الزمن.



«أناشيد» سامي حواط

جاءت الأناشيد في «خدني بحلمك مستر فرويد» لترطّب الأجواء. تمكّن سامي حواط وفرقة «الرحالة» من إعادة الناس إلى سياق العرض. لكل أغنية دلالاتها، فمنها ما يفسّر أبعاد المعاني، ومنها ما يضع الجمهور على مسافة نقديّة من العرض ومنها ما يعود إلى أغنيات مسرحية أخناتون داخل مسرحية خوري. لكن علاقة الفرقة بالعرض وبالممثلين اتسمت بالالتباس بعض الشيء. لم يُطفئ المخرج الإضاءة على الممثلين خلال العزف ولم يضِئها كاملة كي نعرف ماذا تفعل الشخصيات في وقت العزف. أبقى الإضاءة خافتة وتصرف الممثلان كأنه ليس هناك عزف. وحالما عادت الإضاءة كاملة إلى الخشبة، رجع الممثلان إلى إكمال العرض كأن شيئاً لم يكن.