القاهرة | يقسم الشاعر أحمد شوقي الناس إلى صنفين: موتى في حياتهم، وأحياء في بطن الأرض. أمل دنقل (1940-1983) من النوع الثاني. رغم رحيله منذ ما يقرب من سبعة وثلاثين عاماً، إلّا أن قصيدته صاحبة تأثير قوي على شعراء أكثر حداثة رأوا فيه أستاذاً ملهماً لهم. لم يكن صاحب «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» (1969) أمام خيارات متعددة عندما اختار الكتابة لأن «الكلمة في المجتمعات المحافظة والمغلقة أو المتخلّفة لها قيمة كبيرة تصل إلى دور سحري. في الميثولوجيا الشعبية، الكلمة قد تحيي وتميت، بل لها قوّتها الذاتية المنفصلة عن الإنسان كمثال الأحجبة أو قراءة القرآن على المريض».كانت الكلمة سياقاً طبيعياً لهواجس وشجون الشاعر الذي جاء إلى القاهرة من قريته الصغيرة القلعة (قنا ـ جنوب مصر)، مع صديقه الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، ليتبعهما لاحقاً القاصّ يحيى الطاهر عبد الله. لكنّ الشعر كان «خياراً ذاتياً»، كما يقول. ارتبطت نبرته الشعريّة ببيئة طفولته وشبابه، «في مجتمع محبوس بين جبلين، حيث التضاد واضح جداً بين السهل والجبل، وعنف المناخ والحدة، والالتقاط السريع للأشياء، حيث لا شيء له صفة الديمومة، ولا يملك الفرد ما يكفي من الصبر لكتابة الرواية. ارتبط انتقالي إلى القاهرة بتغيير في نوعية الشعر، من الشاعر الرومانتيكي الحالم الذي يذوب وجداً ويكتب عن فتاة تمشي بخطوات موسيقية، وعن مشهد الغروب والنيل، تحولت شاعراً يربط الكتابة بقضايا المجتمع. نفسياً، بدأت أخرج من دائرة الاهتمام بذاتي إلى مزج الذات بالعالم».
بعد سلسلة من الإحباطات، ترك أمل القاهرة، وعاد إلى الصعيد، لكنه لم يتحمل العزلة فقرر العودة مرة أخرى: «عند المحاولة الثانية، قررنا أن نأتي إلى القاهرة كغزاة. كنت أنا والأبنودي، هو يكتب العامية وأنا الفصحى. جئنا بأفكارنا الخاصة عن العالم. في المرة الأولى، كنا نريد أن ندخل في النسيج الموجود. أما في المرة الثانية، فجئنا بخيول جديدة ومستعدين أن نفتح بها المدينة. كنا قادمين بلغة جديدة، لا لنأخذ المباركة من رواد الأدب والكتاب القاهريين، بل جئنا لنقول، وكان على العالم أن يسمعنا».
فى القاهرة، وعبر سنوات، صنع أمل دنقل أسطورته الخاصة بوصفه واحداً من الذين وضعوا أنفسهم في موقع الهامشي المتمرّد الخارج على المؤسسة الاجتماعية والثقافية والسياسية بانتمائه إلى فضاء الشارع. وكما كان محمود درويش يهرب دائماً من ربطه بشاعر القضية، ويصرخ ارحمونا من هذا الحب القاسي، كان أمل أيضاً يهرب من وصفه بشاعر المقاومة. هو لم يكتب قصيدته لتصبح أيقونة للمقاومة، وإنما انحاز في قصائده إلى مبدأ الحرية. ومن هنا يظهر خلف نص الرفض والمقاومة والتحريض، نص يكتبه «الرجل الصغير» والهامشي، في علاقته بمدينته وسكانها من المنبوذين والمهمشين. وهنا يكمن سر بقاء قصيدة أمل ليس فقط لأن الظروف السياسية التي كتب فيها قصيدته لم تتغير، وإنما لأنه يلمس أعمق ما في الحدث، ينفذ إليه ويصل إلى دلالته شعرياً. ليست أشعاره فقط ضد «الدكتاتورية» و«القهر» أو الصلح مع إسرائيل أو حتى ضد كثير من أخلاق البرجوازية المصرية، لكن لأنه لم يكن «معارضاً سطحياً» حسب تعبير الناقد محمد بدوي: «يلتقي مع السلطة في مجمل رؤيتها للعالم مثل نزار قباني، ولكنه شاعر «معارضة» في نقده للأسس التي قامت عليها كل أشكال السلطات، سلطات قهر الجسم البشري، مراقبة هذا الجسم، الاعتداء والعنف وهو ما نكاد نجده في كل قصائده». الشيء الوحيد الذي التقى فيه أمل مع السلطة العربية كما يضيف بدوي «أنه آمن بالأصل العربي لهذه السلطة كهوية وكثقافة. وهذه المفارقة بين جذرية نقده الشعري وكلاسيكية اللغة عنده وانضباطها وصرامتها الشديدة».
صنع أسطورته الخاصة بوصفه واحداً من الذين وضعوا أنفسهم في موقع الهامشي المتمرد


لم يكن أمل شاعراً سياسياً مباشراً، أو دعائياً، لم تكن قصيدته قصيدة مناسبات، بل هو مثل كل الشعراء الكبار، لا يمكن اختصارهم في مرحلة واحدة، صاحب قصيدة متعددة الطبقات. في ديوانه الأخير «أوراق الغرفة 8» (1983) الذي كتبه أثناء مرضه الأخير وإقامته الطويلة في المستشفى، انتقل أمل إلى فضاءات السرد، مركزاً على شعرية التفاصيل الصغيرة، مع العناية بالموسيقى الخافتة. وكان صاحب «العهد الآتي» في أيام مرضه، يحتفظ بأوراق بيضاء كثيرة، يكتب فيها بخلاف الشعر تأملاته، التي دار معظمها حول الموسيقى والغناء، والمرض. كتب في واحدة من هذه الأوراق بخط مرتعش تقريباً: «عيني بترف. رأسي هي التي تلف». ثم يتوقف ويترك مساحة بياض ويضيف: «مع ملاحظة أن مقاطع هذا اللحن الكوميدية والعاطفية. لماذا لا يخطر ببالي، ومنها لحن «الحبيب المجهول» إلا المازورات المتكررة أو بمعنى أدق المجموعات الصوتية. لماذا؟». اهتمام واضح تقريباً بالموسيقى التي استفاد منها في عمله الشعري أو «فرحه المختلس». قبل رحيله بعد مرض طويل، أقر صاحب «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» بضرورة الحلم. «الفن والشعر هما أساساً نتيجة لحلم الإنسان بعالم أفضل، ومجتمعات أفضل»، يسرّ إلينا. «بالنسبة إليّ، حلمي أن أرى الناس أحراراً وغير مقيدين بقيود العجز. أحلم بأن يكون الناس ما يريدونه... ما يريده الشخص لنفسه وليس مفروضاً عليه».