لا يمكن إغفال أن الصور التي التقطتها هدى قساطلي (1960) لمدينة طرابلس تشهد على تحوّلات كثيرة شهدتها عاصمة الشمال. يرِد هذا في لمحة المعرض لكنه قبل ذلك يظهر في الصور نفسها. يأتي «طرابلس الشرق، المدينة التعدّدية» ضمن فعاليات السنة الحالية التي تخصّصها غاليري «أليس مغبغب» في بيروت للمصوّرة اللبنانية بعنوان «هدى قساطلي، 365 صورة فوتوغرافية» من خلال خمسة معارض منفصلة انتقلت إلى الموقع الإلكتروني للغاليري بسبب إجراءات التباعد. وجّهت قساطلي صورتها منذ الثمانينات إلى توثيق الحياة اللبنانية اليومية، والإرث الثقافي والتقاليد الاجتماعية في بيروت وطرابلس ومناطق أخرى. في دالية بيروت، صوّرت تفاصيل البحر كأنها تحتفظ بصورته الأولى بعيداً عن المشاريع العمرانية التي تتربّص به. وفي مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين والسوريين تنقّلت بين المناطق لتقبض على الأنماط اليومية التي يعيشها هؤلاء خلف حدود لا مرئية يفرضها عليهم النظام اللبناني.
من المعرض (2020)()

معرضها الحالي «طرابلس الشرق، المدينة التعدّدية» يشهد على زيارات كثيرة قامت بها قساطلي إلى عاصمة الشمال. اللقطات تقع بين فترتين تفصل بينهما ثلاثة عقود (بداية التسعينيات وسنة 2020)، تغطّي وجوه المدينة بين الزمنين. المعرض الذي يضمّ 41 صورة (كان يمكن لها أن تكون أكبر على الموقع طالما أنه معرض إلكتروني) يقسم إلى ثلاثة أقسام، وفق المصوّرة التي جاءت إلى التصوير من خلفيّة انثروبولوجيّة وأكاديمية، حيث تصبح وسيلتها لوضع صورها في سياقات منظّمة زمنياً وموضوعيّاً.
في المجموعة الأولى «عمارات متعدّدة»، تفسح المصوّرة المجال كلّه للعمارة الطرابلسيّة، وهي تحوي طبقات زمنيّة وتأثّرات مختلفة للمدينة التي اكتسبت أهميّتها كأبرز مدن الشرق الأوسط خلال العصور والحقبات الكثيرة التي أجمعت على «تكريمها»، كما جاء في نصّ المعرض الذي يستعيد الحقبات التي مرّت عليها من الإغريق والبيزنطيين وصولاً إلى العثمانيين. عين هدى قساطلي تتحكّم بالكادر وتُمسك به من كلا الجانبين. أي أنه يصعب الوقوع على صور بلا تحضير مسبق وموجّه ضمن سياق بحثي عن أوجه محدّدة للمدينة. وفي طرابلس تحديداً، تتحوّل هذه المراقبة إلى ما يشبه انتزاع طبقات كثيرة للوصول إلى ماضي المدينة قبل أن تدفع إلى هامش الجغرافيا اللبنانيّة لأسباب كثيرة هي جزء من التاريخ اللبناني العام والحرب الأهليّة تحديداً.

(2020)


(1990 ـــ 1993)

يظهر هذا في صورها للعمارة التي لا يمكن أن توضع تحت تصنيف واحد، سوى أنها تجتمع على فكرة ثراء عمراني اكتسبته المدينة في السابق. نقع على أبواب مشرّعة على أبواب أخرى. أبنية من زمن آفل، وإن يظهر فيها العمران متألّقاً، إلا أن عدسة قساطلي تلتقطها اليوم. لا يمكن لهذا أن يغيب عن عين المتفرّج. يتجسّد الحاضر في بعض الشوائب التي تصنع هذه الشروخات: الحشيش الذي يكبر في بيت مهجور. الرطوبة والتفسّخات التي شقّت ممرّها على الجدران.
يتجسّد الحاضر في بعض تفاصيل العمارات القديمة وشوائبها وتآكلها التي تصنع شرخاً بين زمنين

شبابيك مخلّعة. العمارات المتآكلة، والقصور التي ما زالت بكامل هيئتها هي وحدها في الصور، من دون حضور بشري سوى من خلال بعض التفاصيل مثل سجّادة ملقاة على الحافّة أو أشرطة كهرباء عشوائية تقصّ المشهد. في لقطات أخرى للعمارة، تحاول قساطلي التركيز بعين علميّة على تفاصيل ذلك التألّق المبدّد للمدينة من خلال كادرات لا تُظهر سوى تفاصيل الأبنية وتحتفظ بها مثل الشبابيك وتصاميمها المتنوّعة، والدرابزين باشتغال متأنٍّ وتفصيلي نادراً ما بات يُرى اليوم. من العمارات تتنقّل الكاميرا بنا إلى ورش الحرفيين في المدينة. قسم «حِرَف حيّة» التقطته المصوّرة في بداية التسعينيات. تنصرف هنا إلى طابع طرابلس الثقافي والشعبي واليومي من خلال مهن أبنائها. هناك حرفيون ينكبّون على صناعة الحديد والزجاج والفخّار والقماش والمراكب الخشبية داخل محترفاتهم التي تبدو في الصور امتداداً لهم.

تدخل إلى الأسواق الشعبية في قسم «نكهات متعدّدة»

وإن كانت قساطلي، لا تتطرّق في صورتها مباشرة إلى الوضع السياسي في طرابلس، إلا أن الصور نفسها تتمسّك بطابع تراثي وشعبي للمدينة، يبدو كسردية متناقضة لتلك الصور، ولو أن ذلك لا يخفى عن أبناء طرابلس على الإطلاق. فالجوانب التي تظهّرها الصور، هي الجوانب والتفاصيل التي يعرفها السكان عن مدينتهم في حياتهم اليوميّة فيها. هكذا يأتي التصوير هنا، كاحتفاظ بهذه الصورة. ليس بعيداً عن الحرف، تدخل قساطلي إلى الأسواق الشعبية للمدينة في قسم «نكهات متعدّدة». تنصرف العدسة إلى مأكولات البسطات لدى الباعة. هنا تفسح المصوّرة مجالاً أكبر للتفاصيل، والألوان والأشكال المتعدّدة. هناك لقطات مخصّصة للأسماك والحبوب والبهارات والفواكه. تطغى عليها الألوان الفاقعة والمتضاربة، وهي بهذا تبدو اقتراحاً بصريّاً لتنوّع المدينة الثقافي والتراثي والشعبي الأشمل.

* «طرابلس الشرق، المدينة التعدّدية»: حتى 30 تموز (يوليو) ـــ «غاليري أليس مغبغب» ـــ alicemogabgabgallery.com