منذ أن ألمّت بالعالم موجة تعاسته الأخيرة إثر الأزمة الماليّة العالميّة في 2008 وما ترتب عليها من تعاظم في الفجوة الاقتصادية بين من يملكون ومن لا يملكون، وما تلاها من أجواء غضب وإحباط شامل واستقطابات وفقدان تام للبوصلة، اتّجه كثير من الشباب المتعلّم إلى الفلسفات القديمة ونصوص المفكرين الراحلين بحثاً عن تفسير وسلوى. نتاجات فيلسوف الأفكار الخطيرة وصاحب «إرادة القوّة» الألماني فريدريك نيتشه (1844 ــــ 1900) تصدرت مبيعات كتب الفلسفة في مكتبات الغرب في العقد الأخير، وظهرت منها طبعات مجدّدة، كما سير متعدّدة لحياته ومواقفه الصارمة في ذكرى غيابه الـ 120، وتوسعت النقاشات حول أفكاره على مواقع الإنترنت أكثر من أفكار أي فيلسوف معاصر، وأصبحت جمله الشهيرة لازمة على مواقع التواصل الاجتماعي.أحد هؤلاء الشبان الغاضبين المصابين بالإحباط فيبحثون عن بصيرة لدى صاحب «هكذا تكلّم زرادشت» هو جيمي الأستاذ في المدرسة الثانويّة والبطل ــ الشرير ــ في الموسم الثالث من مسلسل The Sinner الذي انطلق عرضه أخيراً على نتفليكس، وما لبث أن قفز بسرعة إلى مرتبة الأكثر مشاهدة في المملكة المتحدة والأسواق الأنغلوفونيّة وما زال هناك إلى الآن (الثاني من تموز/ يوليو).
جيمي (يؤدّي دوره الممثل الأميركي مات بومر) يظهر مبكراً في الحلقة الأولى من الموسم وهو يغلي غضباً. فحياته الرتيبة في بلدة صغيرة هامشيّة والموزّعة بين طالباته في المدرسة، وزوجته المتطلّبة التي على وشك الوضع، وتنقلاته الروتينيّة في القطار مع جمهور من المغفلين والنرجسيين الحمقى، تدفعه إلى أقصى درجات الحنق والشعور بالاختناق، على نحو سيدفعه لاستعادة أيّامه النيتشويّة الذكوريّة المتطرفة مع رفيق له من أيّام الجامعة، فتقوده تلك تدريجاً نحو سلوكيّات خطرة وانفعالات مظلمة.
لا تبدو هذه مقدّمة تليق بمسلسل تحقيقات بوليسيّة تقليدي ــــ وعلى نتفليكس عدد كبير منها أميركية وأوروبية وحتى شرقية من الصين واليابان وكوريا (الجنوبيّة) ــــ بقدر ما هي أقرب إلى دراما كتبها جوردان بيترسون وسلافوي جيجيك بالشراكة بعد مناظرتهما الشهيرة الأخيرة. لكن هذه المعالجة المغايرة تماماً للمألوف، ربمّا تكون تحديداً سرّ نجاح The Sinner، الذي أسس شخصيته عبر ثلاثة مواسم حول الكشف مبكراً عن القاتل الذي يبدو للوهلة الأولى كأنه شخص طبيعيّ يعيش حياة مكتملة، ومن ثم البحث في ما وراء الظاهر عن الأسباب السيكولوجية المعقدة التي انتهت به إلى ارتكاب الجريمة. في الموسم الأوّل، كانت سيّدة منزل وزوجة تقليديّة تمضي مع زوجها وابنها الصغير ذات صيف إلى البحر قبل أن تصاب بلحظة جنون غير مفهومة، فتهاجم أحد المستجمّين وتقتله بسكين الفواكه التي كانت في يدها، وفي الثاني طفل يسافر في رحلة بالسيارة مع والديه نحو شلالات نياغارا على الحدود الأميركيّة مع كندا، قبل أن يضع لهما نبتة مسمومة في أكواب شاي قضت عليهما بموت مؤلم. وها نحن في الموسم الثالث سرعان ما نعلم أن جيمي على وشك القيام بعمل سيئ، ولا تمضي الحلقة الأولى إلّا وقد تلطخت يداه بالدماء.
ربّما يستوحي The Sinner صيغة السرد المغاير هذه (لماذا قَتَلَ القاتل؟) مقابل الصيغة التقليديّة لمسلسلات التحقيق البوليسي (من القاتل؟) من أعمال تلفزيونيّة سابقة (المحقق كولمبو مثلاً من السبعينيّات وديكستر من العقد الماضي)، لكنّه يضفي عليها مزاجاً من الهدوء الساذج أحياناً للمحقق العجوز هاري أمبروز، البطل الخيّر (يلعب دوره بيل بولمان) وهو يلوك الدقائق متجولاً بين أثاث بيته المعزول في الغابة، أو في الحديقة المنزليّة معتنياً بالأشجار، أو بينما يقود سيارته وسط المناظر الطبيعيّة الخلابة، فيما يدفعه إحساس دائم بالذنب إلى الاستمرار في أداء واجبه للكشف عن أسباب ارتكاب القاتل لجريمته.
هاري أمبروز كأنه الصورة النمطيّة للمحقق الذي طالما قدّمته لنا الشاشة الأميركية: العجوز الذي عركته الأيّام، يعيش حياة شخصية فاشلة غالباً ما يكون سببها ذلك الاندفاع غير المفهوم لأداء الواجب، ويمتلك بالطبع القدرة العبقريّة على رؤية ما لا يُرى في مسرح الجريمة. ومع ذلك، فالمسلسل لا يضعف مطلقاً بحضوره. هو يمنح المشاهدين المساحة لمشاهدة مشوقة من دون الحاجة إلى التركيز الدائم على الشاشة، إذ يمكن دائماً الانشغال لدقيقة هنا أو هناك من دون فقدان التواصل مع السرديّة. لكن الأهم هو تلك القوّة والتعقيد اللذين يمنحان لشخصيّة البطل النقيض الشرير في كل موسم، لترقص التانغو كندّ تام في مواجهة المحقق البطل الخيّر، وهو نموذج ثقيل في العمل الدرامي قلّما تستحمله الشاشة الصغيرة. ولعل سحر المسلسل يأتي من امتناعه عن رسم خطوط صريحة فاصلة بين الخير والشر، إذ يسمح للشخصيات من النقيضين باللعب على المنطقة الرماديّة الفاصلة بينهما وتقديم نفسها من دون أحكام مسبقة للمشاهد الذي ستستدعيه رويداً رويداً لاتخاذ موقفه الشخصي في مساحة ملتبسة، نبدو فيها جميعاً بشراً: القاتل والمحقق والمشاهد تختلط في دواخلنا نوازع الخير والشرّ معاً، فكأنّنا كلنا شركاء في الخطيئة Sinners ومنها اسم المسلسل.
سحر المسلسل يأتي من امتناعه عن رسم خطوط صريحة وفاصلة بين الخير والشر


شخصيّة جيمي في الموسم الثالث تطرح ـــ بمبالغة دراميّة ــــ التأزّم الذي يصيب شخصية الذكر في المجتمعات المعاصرة حيث متطلبات العيش (المتحضّر) تفرض عليه تقديم تنازلات كثيرة: لمديره – أو مديرته بالطبع – ولزوجته أو رفيقته ولأولاده وللنظام الاجتماعي العام وللسلطة السياسية والأمنيّة، فيشعر بعضهم بالإحباط، لا سيّما من مرّ بتجربة فكريّة أو عمليّة في الاندفاع الذكوري خلال فترة مراهقته وشبابه، حيث لا مسؤوليات وربما لا مرجعيّات. تجربة جيمي كانت أيّام الجامعة مع رفيقه نِك هاس (يلعب دوره كريس ميسينا) بعدما اكتشفا سويّة هذايانات نيتشه حول موت الرّب، وتسامي الإنسان المتفوق عبر مواجهة الحياة بأقصى تطرفاتها، السوبرمان الذي يخلق قواعده الأخلاقيّة الذاتيّة ويعيد بناء العالم كما يشاء، ويعبث - كما يجوز لإله - بأمور الحياة والموت. جيمي الضعيف الشخصيّة متأزماً يبحث عن رفيقه بعد انقطاع سنوات سعياً للهروب من أزمته الذاتية إلى ألعابهما النيتشيّة الخطرة، فينتهيان إلى الغرق في بحر الدم، فيما يتورط المحقق أمبروز لاحقاً معه في ذات الألعاب وهو بدوره يكشف عن ذكر متأزّم جنّت أمّه صغيراً ورحلت، وكبر ليُداس من قبل عشيقته – حرفياً – وتتركه زوجته، وتقسو عليه زميلته في العمل وتتعاطى معه ابنته الوحيدة بتباعد ظاهر.
أستاذ جيمي في الجامعة يشرح لأمبروز أن «نيتشه للشباب أيّام الجامعة يكون غالباً مرحلة تخلٍّ خطرة يمرون بها، ثم يمضون عنها إلى حياتهم العمليّة». لكنه لا يفسّر أن تلك الحياة العمليّة في ظل المنظومة البرجوازية الرأسماليّة تقودهم بالضرورة إلى الاغتراب وفق المفهوم الماركسي ـــ اغتراب عن الذّات، واغتراب عن الآخر ذكوراً وإناثاً، واغتراب المجموعات الهوياتيّة عن بعضها، وحتى اغتراب الإنسان عن العالم الطبيعي من حوله. ومن دون شك، فإنّ هذا الاغتراب متراكباً سيدفع إلى تشويه نفسيّات البشر، فينتهي معظمهم كما زومبيّات تعيش على هامش الحياة، فيما يختار آخرون النفق النيتشوي... إرهابيون وقتلة ونرجسيون ومدمنو سلطة على الضعفاء!
The Sinner في موسمه الثالث مغامرة فلسفيّة لنتفليكس تستحق المشاهدة، وطرح الأسئلة.

* The Sinner على نتفليكس