دمشق | توفي أول من أمس في العاصمة الأردنية عمّان الروائي الياس فركوح (1948- 2020) إثر أزمة قلبية. رحيل مباغت أفجع الوسط الثقافي العربي، ذلك أن صاحب «قامات الزبد» كان مثالاً للألفة والحضور الخلّاق، سواء في ما أنجزه روائياً، أم للدور الذي لعبته «دار أزمنة» (1991) على صعيد النشر النوعي، بالإضافة إلى ترجماته المتعدّدة. اختيار روايته «أرض اليمبوس» في القائمة القصيرة لجائزة «البوكر» العربية في دورتها الأولى (2008) أثار انتباه النقّاد إلى تجربته السردية في القصة والرواية كشاهد على تحوّلات مدينة عمّان في طبقاتها المتعدّدة، خصوصاً في ما يتعلّق بكائنات القاع وأحوال الفشل والخيبة والمواجهات المجهضة. وسوف تتوضح صورة المدينة بعدسة مفتوحة على أطياف المجتمع الأردني في مجموعته القصصية «طيور عمّان تحلّق منخفضة»، كاشفاً عن تناقضات عميقة أفرزتها الجغرافيا الهجينة للبلاد، والحداثة التي خلخلت القيم القديمة لمجتمع تائه بين البداوة والمدنية الطارئة، ما استدعى تجريبية عالية في فحص تضاريس المدينة، نابشاً جانبها الهامشي في المقام الأول. وإذا بمجرى السرد يذهب إلى روافد أخرى، إذ تحضر الشخصية الشركسية والفلسطينية والأرمنية كحامل للوعاء الحكائي والمكاني بهندسة سردية موازية تتكئ إلى تعدد الضمائر وتناوبها، بقصد كشف التباين بين شخصية وأخرى، بنظرة نقدية صارمة تعمل على تفعيل قوة الاحتجاج والرفض. وتالياً فإن سرديات صاحب «الملائكة في العراء» تستدعي احتجاجاً على بنية السرد، نحو شاعرية تبطن وجعاً داخلياً عميقاً حيال مصائر شخصياته المعذّبة.
فحص طوبوغرافيا المدينة وهوامشها، سيقوده لاحقاً إلى تلمّس جوانب أخرى لا مرئية، على الأرجح بسبب فقدان الأمل والخيبة، وإذا بالمدينة كثبان رمل وماء وغبار وطين: «كالمدينة هو: يعبرها مسافرون، وقاطنون، وغبار، وطين، وبرد» (إحدى وعشرون طلقة للنبي).
أثار انتباه النقّاد إلى تجربته السردية في القصة والرواية كشاهد على تحوّلات عمّان في طبقاتها المتعدّدة

في روايته «أرض اليمبوس»، سيوسّع أرض الأسئلة قائلاً «لن تتخلص من كومة الأسئلة، مثلما لن أتخلّص منها بدوري، غير أن سؤالاً يبقى يلح علينا ولن نعثر على جواب له، لن تكتمل الإجابة لأنه، وكما قال الأب، لا شيء يكتمل. سنبقى نقبض على شيء في يد، وعلى خواء في الثانية. أما نحن ففي الوسط. لسنا هنا ولسنا هناك. لسنا في الجنة، ولسنا في الجحيم. أفي الأرض الحرام نحن؟ أفي مطهر اليمبوس سنبقى نراوح حائرين؟ والحيرة متاهة». حيرة ستنعكس على نصوصه الهجينة، حيرة الشعر في مهبّ الحكي، ذلك أن جيل هزيمة حزيران 67 وجد نفسه في متاهة لا نهائية، وفي المقابل كان عليه أن يستثمر الكثافة اللغوية لتصدير بلاغة مضادة، وقلقٍ أصيل، من دون الاتكاء على وصفة نهائية: «إني من المتحمسين للكتابة الهجينة ما دامت تمنحني إحساساً بالجمال، وتبرهِن لي أنَّ تجنيساً معروفاً ومألوفاً ومعتاداً لا يصلح لأن يكون بيتاً لها. تمثّلُ الهُجنةُ والخلاسيات أمثلة جميلة وجذّابة على قيمة الاختلاف والتعدد، في النصوص كما في الحياة، عندما ينتهي انصهارها الطوعي الواعي إلى إغناء حياتنا». ربما علينا أن نستعيد كتابه الأخير «رسائلنا ليست مكاتيب». فرسائله المتبادلة مع الكاتب الراحل مؤنس الرزاز، تضيء جوانب أخرى من التجربة.