ليس سهلاً تصوّر ماهية تحويل صفيحة ملساء من النحاس إلى عمل فني من دون معرفة جماليّات الحفر الدقيق بمحفار «البورينو» الذي حمله جرداق في يد وشدّ على الصفيحة باليد الأخرى، مخربشاً خطوطاً ومنتجاً أعمالاً فنية.رفرف بإبداعه وتميّز بفن الحفر والطباعة، وتأهل لمجد اللقب «حفار النحاس». وهكذا هو، فنان صبور ، رسم بعبق الحدس المتأتّي من مخيلته الرابضة فوق كل خربشة، رسمة، لوحة أو منحوتة، ونفذ الى ما وراء الصعوبات التقنية لفنّ الحفر. استخدم حدسه في أكثر الأحوال بغية تمثيل مجموعة من الظواهر الفنية التجريدية والتعبيرية، التي لا تخلو من إرهاصات الرياضيات والعلوم الهندسية.
أسّس حليم جرداق للغة تشكيلية خاصة تجرد المكان والزمان وتدمجهما في عالم الجمال. إن معرفته الدقيقة بفن الحفر التي اكتسبها في مشوار التعلّم بين بيروت (الألبا) وباريس (أكاديمية أندريه لوت، ومحترفات برياشون للرسم وكامي وترسييه للحفر) جعلته يحلق فوق التفاصيل التقنية لينتج أعمالاً فنية تتجاوز الفن المتداول (تطويعه لصفائح النحاس على شكل منحوتات صغيرة ذات البعد الواحد)... كأنني أرى أنّ جرداق استطاع أن يشكل انعطافاً تصورياً وبصرياً، بدأ من التكعيب مروراً بالتجريد الموضوعي وصولاً إلى التجريد الحر، وأثار جدلاً حول التصويرية واللاتصويرية.
بغيابه... العزاء للبنان وللمثقفين ولأهله وأصدقائه... وللفنانين التشكيليين المتنسّكين في سبيل الفن.

* أستاذ في الجامعة اللبنانية