شيخُنا مات. حليم جرداق (1927 ـــــــ 2020). التشكيليّ العربيُّ الرائد والمُنَظِّر الفنيّ الطليعيّ الأوّل، احتضن موتَه وحيداً كبواشق الشوير منذ سنوات، كما امتشق حياته بشموخ صنّينيّ في وجه شرذمات الأمة وتخبّطات الفنون. وحيداً حتى الموت، رحل متمِّماً كامل واجباته الفنيّة التشكيليّة والفلسفيّة والقوميّة. لكن، أهكذا يموت أبطالنا وحيدين بين الجدران؟ شيوخاً مدفونين أحياء، فيما مُزْبِدو وراغو التعازي في الهيكل كُثر... انتظروا إعلان موته ليمشوا في جنازة الضوء. لكن حليم ترك الهيكل بما فيه لمن فيه من تجّار. مات حليم جرداق وبكامل «عين الرضا» يعود اليوم إلى «عين السنديانة» الشوير. عن اثنَين وتسعين عاماً من عمر الوقت، عزفاً. آلاف المقطوعات اللونيّة البصرية وآلاف الكلمات البصرية وأكثر... أهدانا «أفراح الضوء» وأصرَّ على أن «كل الأيّام أعياد».
بورتريه للراحل بعدسة الفنان الفوتوغر افي جيلبير الحاج (خريف ١٩٨٨) (عن صفحة جيلبير الحاج على فايسبوك)

«وجهتي هي النور، هدفي هو النور، فهو الذي دفعني لأستحصل على جواز سفرٍ وأنا بالكاد أملك ثمن جواز سفر، وهو الذي وضعني على ظهر الباخرة من دون طعام، وحتى من دون كيس للنوم. هو سوسَتي ووسواسي. هو السبب. هو الذي من أجله كلُّ هذا الذي حصل ويحصل. فأنا لست أقل تلهفاً ولا أقل انجذاباً من الفراشة إلى النور وإلى الارتماء فيه حتى الاشتعال ولهاً. أهفُّ إلى النور، إلى لُبّ النور، إلى النور الذي هو النور الذي لا تقدر العين التي تحت الحاجب أن تراه» (حليم جرداق، عين الرضا - في الفن والذات والكينونة والأشياء- ص. 110).
رسّاماً، نحّاتاً، ملوّناً، كاتباً، أكاديميّاً، مفكّراً فنيّاً، مُنَظِّراً لونياً، مجرّباً، خاض قمم الفنون من الواقعية إلى الانطباعية والتعبيرية والتكعيبية والتجريدية والرمزية والتأليف الحُر ذي البُعدين طباعة وحفراً، وكذا ثلاثيّ الأبعاد نحتاً. بل يجوز القول ببُعد رابع: الضوء. حتى كانت خيطان النحاس التي يلويها تُضيء وتُظلّ وترقص في النور.
شيخ الضوء ما عرف غير الضوء. منذ كان طفلاً في قريته «عين السنديانة» وعيونه تشهدُ الشروق من صنّين، فيرسم نفسه يتسلقه من عند السفح، إلى أن «تحققت هذه الأمنية في إحدى الصيفيات، وكنتُ قد ودّعتُ الوليديّة من زمان، وقد بلغت العمر المُنتصف» (حليم جرداق، أفراح الضوء، ص. 9) معها اعتاد حليم جرداق ارتياد القمم. لكن هل عرف أنه سيكون بذاته تاج صنّين؟

من دون عنوان (باستيل على ورق ــ 56 × 66 سنتم ــ 1978)


«الفكر» (كولاج وحفر ـــ 34 × 50 سنتم ــ 2000)

كان الشاب حليم قد تخرَّج من الأكاديميّة للفنون الجميلة (1953-1957)، ليلتحق بالمدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس، وأكاديمية «لا غراند شوميير». بعدما حصل على الجائزة الأولى للحفر من المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس عام 1961، أكمل الدراسة في ميونخ ليعود إلى عاصمة الأنوار ويعرض في باريس. اقتنت أعماله أهم المتاحف العربية والدولية. عرض في أربع جهات الأرض. وعاد إلى بيروت حيث أسّس محترف الحفر النحاسي في كلية الفنون في الجامعة اللبنانية. مرحلة مهمّة خاض فيها الشاب حليم العمل الأكاديميّ بعمقه وخطورته، لكن من دون أن يبتعد عن قمّة جبله: «وبعد رجوعي من باريس سنة 1966، كان يتخلل صيفيتنا في ضهور الشوير، أنا وصديقي الشاعر خليل حاوي، زيارات إلى صنين نقضي فيها في كل مرّة أيّاماً، وأحياناً أسبوعاً أو أكثر» (حليم جرداق، أفراح الضوء، ص. 9)
كان التصاق حليم جرداق بالطبيعة بنيويّاً في انعكاسه على أعماله رغم أنَّ غالبيّة النقاد الذين كتبوا عنه أحالوا تقنياته وألوانه إلى مختلف المدارس الفنية والإرث الحضاري المتنوّع الذي تشرّبه من الغرب، وعاد به إلى الشرق أو من موروثه في بلاد الشام أساساً. حتى إنّ بعضهم أحاله إلى خيارات خاصة بالفنون الهامشية، كفنون الأطفال ونتاج المجانين أو مشاهداته للموروثات الشعبيّة.




إلا أنّ شفافيّة العلاقة بين جرداق وأعماله بكل ما فيها من حياة كونيّة، لا يَصدُقها إلا قوله: «عندما أرسم وألوّن، لا أقول إنني أضع بقعة لونٍ هنا وأجرُّ زيحاً أو خطاً هناك في مكان ما على هذا الفراغ الأبيض الخلاء، بل أقول إنني أتحرّك وأتوجه بين كائنات حيّة مريدة فطينة تتمايز وتتنوّع وتختلف في تأثيراتها وإيحاءاتها، مما يجعل تجاوبي معها ومشاعري تجاهها تختلف وتتمايز وفقاً للوجهة التي أتوجّه فيها أو إليها بين هذه الكائنات من التزاييح والتلاوين» (حليم جرداق، عين الرضا - في الفن والذات والكينونة والأشياء - ص. 224).
أسّس محترف الحفر النحاسي في كلية الفنون في الجامعة اللبنانية


هي إذاً كائنات، وليست ألواناً ولوحاتٍ ومنحوتاتٍ وزيوحاً. هي كائناتٌ نورانيّة انبثقت من تلك القمم الباسقات. بل أكثر، قبل الرسم وقبل فعل التكوين، تكون إرادة الحياة من باطن العمل: «فعندما أتواجه مع المسطّح التصويريّ وهو يمثل أمامي وينبسط في جهاته الفوق، والتحت، اليمين، اليسار، أشعر بأنَّ هذا المسطح الأبيض العذر ليس فراغاً أو شيئاً لكنه جمهرةٌ من كائنات حيّة فطينة مريدة تحدِثُ في ما بينها علاقاتٍ وتفاعلاتٍ وتوتّراتٍ من التجاذب والتنافر، ومن التقارب والتباعد، ومن الانفساح والانكماش، ومن الانشراح والانقباض. أحسُّ بأنَّني بين كائناتٍ تشعرني بوجودها وإرادتها ومتطلباتها حالما أواجهها كفنّان، وحتى قبل أن أضع أيّ نقطةٍ من قلم أو بقعةٍ من لون في مداها وفي مجالها الحيويّ هذا» ( حليم جرداق، عين الرضا - في الفن والذات والكينونة والأشياء - ص. 212).
كان حليم جرداق صنين نفسه، ويبقى تاج صنيننا. شيخ التشكيليّين، شيخ الضوء، من كان ببساطة يجب أن نحتفي به بمتحف خاص يجمع إرثه الفنيّ، نرثيه اليوم كمريدين. والأصدق أننا نرثي لحالنا وهو يعرّينا بموته.

كان التصاقه بالطبيعة بنيويّاً في انعكاسه على أعماله


مات حليم جرداق. فلتَمُت كل وزارات الثقافة التي شهدته يموت وحيداً مجرداً منفياً في مأوىً للعجزة. فليَمُت كل تجار الهيكل الذين يتقبلون التعازي اليوم. فليَمُت كل من اقتنى عمله من دون أن يسأل عنه. فليَمُت كل من استغلَّ لونه ليجني المكسب المادي.
فليَمُت النقد الفنيّ الذي لم يصرخ إلا ليبتهل لوجع حليم يُباع أمامه عينَيه.
فلتَمُت صالات العرض الانتهازيّة مصاصة دماء الفنانين.
مات حليم جرداق وحده حتى الرمق الأخير. مات ونحن شهود على ذلك.
حليم... إن كنت تسمعني الآن، بحق صنّين وثلجه وتاجه: «خذ كل ما لنا من إمكانية مادية على الطيران أو على الغوص وأعطنا ومضة واحدة من وعيك الذهني النهاري البلوري الزلالي الحادّ».
(حليم جرداق، عين الرضا، ص. 128).

* تقام الصلاة ومراسم التشييع اليوم الثلاثاء عند الساعة الرابعة من بعد الظهر في كنيسة «القديسة تقلا ـ عين السنديانة» (الشوير). تقبل التعازي مع الصلاة في صالون الكنيسة