غرائز الكتاب

  • 0
  • ض
  • ض

علاقة الزمن بالكتابة لم تعد أليفة، ولم يعد الكتاب هو الجليس القديم والشاطر في تسويغ لعبة المعرفة، وفكّ اشتباك المريد بمصادر بحثه عما يتوق إليه من العلم والحكمة، فالمكر المعرفي صار لعبة مضادة، والسلطة والمقدس والجماعة والمؤسسة صار لديها طرقها السرية لاصطناع ما يجاور التاريخي والسياسي والديني، وما يهددها معاً. استراتيجيات الكتاب وتداوله تبقى- رغم فوبيا هذه العلاقة- والتباساتها غريزة فائقة، فيها الكثير من الغواية، تلك المسكونة بشحنات الرغبة، والهوس بالبحث والترقّب والتلصص، والإنشداد الى تسويق فكرة الرسائل المُهذّبة والمشاغبة والمُفارُقة، وإباحة القبول بنص اللذة ونص التأويل.. الكتاب رفيق معرفة، وكشف، وهو أيضاً رفيق محنة، فهو الوجه السيميائي لتدوين الوجود، واستكناه سرائر معانيه، وصانع الخفّة في التخفيف عن وطأة المكابدة والقلق والخوف، والدافع لاصطناع الطرق المُتخيَّلة للذة والكشف والتَلمّس، بدءاً من مرحلة تدوين الأسئلة الأولى في الكهوف، وأسئلة الوعي الشقي في المدينة، وانتهاء بالتماهي مع أسئلة التكنولوجيا، تلك التي بدت أكثر سهولة وأكثر فضائحية، وأكثر تمثّلاً لمعايير تغيّير عادة الكتابة القلمية، وطردها خارج غابات الورق، ووضع السياق النمطي للكتاب وصناعته اليدوية والحسّية داخل لعبة من التقانات والمهارات الضاغطة والخارجة عن السيطرة. الرهان على القارئ هو المشترك الجامع في صناعات الكتاب، إذ لا يمكن تجاوزه وإهماله وإخراجه من اللعبة، فهو كائن التلقي والتفسير والتأويل، وصاحب الحظوة في تلقي ما يتساقط من لذّة هذه الصناعة، وتجاوز ما كانت تهجس به حساسية الورقة، عبر سطحها الصقيل، أو عبر ملمسها الأنثوي، أوبشغف ما يمكن أن تُشكّله، أو ما تشترطه من طقوس افتراضية للقراءة. في «معرض بيروت العربي الدولي بنسخته 59»، بَدَت تلك العلاقة وكأنها أكثر إشهاراً، وأكثر تعبيراً عن أهمية توطيد الهيكل الصناعي للكتاب، والمحافظة على صورته وطرائق عرضه وتقاليد تسويقه، فضلاً عن الإهتمام بـ «برستيج» القارىء (العضوي) الذي يلاحق هذا الكتاب في جدّته وإثارته، ويجاهر بواقعية حيازته وقراءته، والاحتفاظ به في المكتبة أو على الطاولة، أو عند سرير النوم. المهم أنّ الكتاب يواصل لعبته الفادحة في الحضور، وفي الخروج العلني من فسحة الفرجة الى فضاء الاستعمال، والتموضع داخل فضاء المعرفة، والاحتفاظ بخصوصية التحفيز الشرائي رغم كل الرعب الاقتصادي الذي يهدد السوق والعائلة، وأن يكون أكثر ندّيو لكل طرائق التكولوجيا الرقمية وسحرها وسرعة احتوائها. البعض من السياسيين والإقتصاديين ظل أكثر اغتراباً عن الكتاب، وربما يثير أسئلة (برغماتية) حول تضخيم جدوى صناعة الكتاب، وحول قيمتها الانتاجية والتسويقية، وحول علاقتها بالتقانات التي غيّرت عادات القراءة، وبدلّت يوميات القارىء وسط عالم يمور بصراعات لا يحتاج محاربوها الى الكتاب والقراءة والشغف قَدْر حاجتهم للأوهام والأسلحة والوصايا. رغم كل هذا الرعب والتهديد والتفليس و«سوق» الكتاب وناشروه يصرّون على وضع الكتاب خارج لعبة المزايدات والانتهاكات، وضمن سياق ثقافي وتجاري، فيه الكثير التنافس المعرفي، مثلما فيه الكثير من الرومانسية التي تتيح للجميع تلمّس المتعة والفرجة والتمري بشغف الجمال الذي يُضفي حياة تمشي في سوق الكتابة. هذا التموضع ليس مخادعة، وليس إنحيازاً لـ «الأنتيكا» الثقافية التي يمثلها الكتاب، بقدر ما هو تعبير عن وجود شكل آخر للحياة، وفضاء آخر للتجارة الأقل بشاعة، إذ يأخذنا سحر الكُتب الى ملاذاته وغواياته، والى كل التحولات التي تمسّ صناعته، وتحرّض على تغيير أنماط قراءاته، وآليات نشره، وعلى السياقات التي تخصّ آليات عرضه وطلبه. ما نجده في عالم معرض الكتاب البيروتي، يعكس لنا الكثير من الواقع، ففيه نقائض المرجعيات التي تنشر الكتاب، وفيه أيضاً دور النشر التي تسعى الى تسويق الكتاب المتخصص في السياسة والفكر والدين، والكتاب الإبداعي، والكتاب اليومي، والكتاب الايروسي، مثلما يعكس لنا عالم الكتب الكثير من صراعات الرعب التي يعيشها الواقع العربي، تلك التي انعكست على توصيف الكتاب بشكل خاص، وكذلك على صناعة الجمهور الذي يمكن كسبه والرهان عليه. وبقطع النظر عن المردود المادي لصناعة الكتاب، تبقى خصوصية المعرفة وفرادتها، ورمزيتها، وقوة تأثيرها في صناعة الرأي العام مسألة مهمة وخطيرة، وتحتاج الى الكثير من التخطيط والمأسسة، والمزيد من ربط استراتيجيات هذه الصناعة بالتعليم والتنمية، فلا توجد ثقافة خارج التعليم، وخارج التنمية، مثلما لا يوجد كتاب خارج ضرورات القراءة. الإصرار على تنظيم معارض الكتاب في العالم العربي سيظل رهاناً محفوفاً بالمخاطر، لأن الكثير من عناصر استهلاك هذا الكتاب لم تستوف بعد شروطها وأهليتها، أو ربما هناك تَعمّد في تغييبها، فضلاً عن تضخم ظاهرة الأمية والجهل والتخلّف بكل وجوهه، هناك إصرار عند البعض على ترويج كتب العنف والكراهية الثقافية والهوياتية، إذ تحوّل الكتاب الى وصية، والى خُطبة، والى ظاهرة لتكريس رعب الخطاب الثقافي والديني، والباعث حتما على «مديح الكراهية» كما يسميها خالد جابر، تلك التي تقوم على توليد العنف الروحي، وشهوة التوحش، والعديد من عصابات الحروب الأهلية، والتي أسهمت في تعطيل عمل منظومات التنمية والتعليم، وتكريس ظاهرة الكتاب الواحد، وعزل فاعلية التنوع التي تقتضيها صناعة الكتاب عن أداء وظيفتها، لأنها ستكون تحت هذا التوصيف صناعة ضالّة، ومروجوها سيكونون كفرة وزنادقة ومارقين عن تابعية الملة والأمة. * كاتب عراقي

0 تعليق

التعليقات