على خطٍّ مستديرٍ يشكّلُ حلقةً مفرغة لا تنتهي عند نقطة البداية ولا تنفتحُ على ما هو خارجها، تسيرُ أطروحتانِ منذ زمنٍ في أعقابِ بعضهما البعض دون ثمرةٍ واضحة؛ الستر والتعري. ربما يعود السبب في عبثية هذا الدوران، إلى فقدان الديالكتيك اللازم لبناء فروضٍ معرفيةٍ تعيد إلى الذهنية المعاصرة المبادئ الأولى قبل تراكم المصطنعات الواردة. يحدّثنا الكاتب عصام زكريا في مقالته الأخيرة في جريدة «الأخبار» (عدد 24 تموز 2020) عن فكرة اختزال العالم في سنتيمترات الجسد العاري، ليقدم انعكاساً لمفهوم صراع الحضارات الجنسي على مواقع التواصل الاجتماعي، ذاهباً إلى أن العقل الإسلامي لا يزال عاجزاً عن مواجهة الغرب لخضوعه لسطوة الرغبات الدفينة التي تظهر على شكلِ مواقف متشددة طارحاً نماذج كانت تشعل مواقع التواصل مؤخراً مثل السينما النظيفة في مصر إلى البوركيني والجدل الذي أثاره في الأوساط العربية أخيراً.
عمل للفنان الأميركي شيبارد فيري

في الواقع، يمكن القول إنه تناول أطروحتين، البوركيني والبكيني في جدليةٍ محتدمة ربما ينتظر القارئ مفاعيلها ليتمكن من حلّ هذه المعضلة التي تمسُّ الكائن الاجتماعي عموماً. موقفانِ متعارضانِ يخدشُ أحدُهما حياء الآخر وحريته كما عبّر الكاتب. إن توجه زكريا واضح نحو مقولة «الحرية الشخصية» في ما يتعلق بارتداء البكيني، كما هو واضح نفوره من الأطروحة المقابلة «البوركيني» التي تمثل الحضارة المتزمّتة ربما، والعاجزة عن محاكاة الغرب وفكره التحرري. اعتبر زكريا أن الديمقراطية التي وفرتها ثورة الإنترنت ومواقع التواصل تم تحويلها إلى منصّةٍ لتقويض الديمقراطية ذاتها، معتبراً أن أطروحة البوركيني - بما تمثّله حضارياً - إنما توظف مفهوم «الحرية الشخصية» للتغلغل في الفكر الآخر وفرض نوعٍ واحد من الملابس على الجميع في نهاية المطاف.
لعلّ زكريا لم يلتفت إلى أنه وظّف بذلك مفهوم الحرية الشخصية نفسه للتغلغل وفرض ثقافة التعري ــ ولو بالتدريج ـــ من خلال إبداء النفور مما يسميه بعضهم غطاءً أو حجاباً أو نقاباً لا فرق، إذ إنهم يشملون كل تلك المفردات في ثقافة الحجاب؟ أليس عبثاً أن نستخدم استدلال الأطروحة المستبعدة ذاته في إثبات أطروحتنا؟ إذ أنه لا شك في زيف إحدى القضيتين في النهاية، فيما لو اعتبرنا الاستدلال بمبدأ الحرية الشخصية صائباً هنا!
أليس عبثاً القول إن التعري والتغطي كلاهما سلوكٌ إنسانيٌّ حر!؟ أليست هذه قضية زائفة؟ فالتقابل ينتفي هنا ويتداعى التناقض فكلا الطرفين حرّ وكلاهما صائب. إذن فأين الإشكالية؟
بيد أن زكريا يقع في فخ الاستدلال الخاطئ، وتتحلل وتنفرطُ إشكاليته حين يسأل: «هل البوركيني لباس للبحر بجانب المايوهات، أم أنه لباسٌ عادي قبيح المنظر يخدشُ حياء السابحات العاريات؟!»
ويظهر بذلك هاجسه من اختفاء آخر قطعة بيكيني عن الشواطئ العربية نتيجة توسع ثقافة التغطي.
المرأة إنسان نعم، ولها حرية الملبس. لكن أليست حدود حرية الإنسان تقف عند تخوم عدم إيذاء الآخر داخل المجتمع المدني كما ذهب توماس هوبز، وكما بنى إيمانويل كانط فلسفته العملية؟ فلماذا لم يعتبر الناقد البوركيني حريةً توازي حرية البكيني؟ ولم استعصى عليه البقاء موضوعياً في مقاربته؟ ولم لم يحاول الإحاطة بنفسية المرأة الحرّة في الثقافتين، ودواعي المحجبة أو المغطاة وحريتها في ارتداء ما لا يضرُّ عيناً تراه ولا يشبعُ عيونَ متعطّشي الحملقة في البيكيني في هذا الفصل الهائج، حيث بات التعري لازمة التحضّر وبوابة الحوار.. وإلا فأنت لا تستحق عناء الاعتراف بوجودك.
وبعد ذلك، ما قيمة الحرية الشخصية في مجتمع انحلّت فيه القيم وانمسخت المُثُل، فمات النموذج الأصل، وتعدّدت الصور المصطنعة، وأمسينا عبيد البرستيج المقذوف علينا من هوليوود القديمة، ونسينا أن الإنسان له أسبقية الوجود على البرستيج؟

* كاتبة ومترجمة