احتفل العالم أخيراً بالذكرى الـ116 لوفاة أنطون تشيخوف (أو تشيكوف، كما يكتب اسمه بتوع المدارس الإنكليزية أو الفرنسية من المثقفين العرب)، الذي أودى به مرض السل العضال إلى القبر في 2 تموز (يوليو) بالتقويم اليولياني الشرقي، و15 تموز (يوليو) بالتقويم الغريغوري الغربي من سنة 1904. وكان الكاتب الإنساني العظيم قد أبصر النور سنة 1860 في مدينة تاغانروغ جنوبَ روسيا، ليتخرّج في سنة 1884 في جامعة موسكو بتخصص صعب هو طبيب الأرياف. ثم ينتقل مع عائلته للعيش في عزبة ميليخوفو، في ضواحي موسكو، عام 1892. وينتقل بعد 7 سنين من ذلك للعيش في شبه جزيرة القرم، إذ إن الكاتب المرهف كان بحاجة إلى مناخ دافئ وإلى العلاج على ساحل البحر. وقد عاش الأديب الروسي الكبير 44 عاماً. ومع ذلك، فقد أفلح في هذه الحياة القصيرة في كتابة نحو 300 نتاج أدبي متنوّع من القصص القصيرة والطويلة والمسرحيات والرسائل التي أغنت التراث الأدبي الروسي والعالمي.
لكنه يبقى رائد القصة القصيرة وأعظم كتَّابها في العالم على الإطلاق.

أنطون تشيخوف في نيس عام 1898 بريشة أوسيب براز

كتب تشيخوف في عزبته في قرية ميليخوفو، التي تبعد نحو 40 كيلومتراً عن موسكو، أكثر من 40 عملاً، منها قصصه القصيرة الشهيرة: «الراهب الأسود»، «كمان روتشيلد»، و«آنـَّا على الرقبة»، بالإضافة إلى مسرحيتيه الشهيرتين «النورس» و«الخال فانيا» (وليس العم فانيا).
وكتب في منتجع يالطا الساحلي، في شبه جزيرة القرم، حيث عاش في منزله الريفي الأبيض المعروف بـ «الداتشا البيضاء»، 65 قصة قصيرة، وعدداً من المسرحيات، من بينها «الأخوات الثلاث» والأيقونة المسرحية «بستان الكرز»، التي أصبحت جزءاً من التراث العالمي. 
غير أن هذا كله لا يعنينا هنا، إذ إن هناك أدباء كثيرين آخرين من فرسان الكلمة الجميلة يأسرون بها ألباب العامة، ويحرصون حرصاً بالغاً على جمالية إبداعهم اللفظي، ويقولون، ويقولون، ويقولون... لا غير. وقد سخر تشيخوف من كلام المثقفين المفوهين ولغتهم الكاذبة، التي يخفون عبرها عدم اكتراثهم بما يحدث في الشارع المجاور لهم، في حين أن «في الإنسان كل شيء يجب أن يكون رائعاً: وجهه، ملبسه، روحه وأفكاره».
نحن هنا نسلط قليلاً من الضوء على البعد الإنساني في شخصية تشيخوف، الذي كان يرى أن الرسالة الجليلة الملقاة على عاتقه هي خدمة المجتمع، وكذلك مسؤوليته إزاء من حوله بعيداً عن التنظير الديني أو السياسي أو العبارات المنمقة والأنيقة الطنانة الجوفاء الخاوية من أي تكافل اجتماعي حقيقي. ولذا كرس جزءاً مهماً من وقته لأعمال الخير الإنسانية، ونجح في تحقيق إنجازات كثيرة على هذا الصعيد: فقد أقام في مسقط رأسه تاغانروغ مكتبة عامة، تبرع لها بأكثر من ألفين من كتبه، واستمر في تزويدها باطراد على مدى 14 عاماً. وفي عزبة ميليخوفو، كان طبيب الأرياف أنطون تشيخوف يستقبل كل عام ما يزيد عن ألفين من الفلاحين المرضى من القرى المجاورة مجاناً، ويصنع لهم الأدوية بنفسه، ويمدهم بها. لقد كان هو لهم طبيباً للأمراض الباطنية والأسنان والعيون، وجرَّاحاً يجري العمليات الجراحية، بل إنه كان قابلة توليد. وفي مطلع التسعينيات من القرن الماضي، عندما تفشى في روسيا وباء الكوليرا، أشرف على رعاية المرضى في 25 قرية وحيداً من دون مساعدين. وفي هذه المنطقة، بنى 4 مدارس قروية، برج أجراس، حظيرة لإطفاء الحرائق للفلاحين. وتوصل إلى شق طريق من قرية ميليخوفو إلى بلدة لاباسنيا، متغلّباً على المقاومة السلبية للمجلس الريفي للنبلاء الكسالى، وخداع المقاولين، ولا مبالاة الفلاحين المحليين.
وإضافة إلى ذلك كله، زرع في قرية ميليخوفو نفسها نحو ألف شجرة كرز، وغرس في أراضيها المهملة أشجار الشوح، القيقب، النخيل، السرو، الصنوبر، البلوط واللارقس.
أما في يالطا، فغرس أشجار الكرز الحلو، التوت، النخيل، السرو، الليلك، عنب الثعلب، الكرز وروضات الزهور.
وإلى جانب ذلك، ساعد تشيخوف آلاف الأشخاص، وقد صيغ محتوى رسائل كثيرة إلى تشيخوف في كتالوغ مجموعة مؤلفاته هكذا: «شكر على النقود التي تسلمها من تشيخوف...»، «شكر على المساعدة في الحصول على وظيفة...»، «شكر على التوسط للحصول على جواز سفر»...
وأخيراً، كتب أنطون تشيخوف في دفتر جيبه هذه الأسطر: «المسلم يحفر بئراً من أجل خلاص نفسه. حبذا لو أن كل واحد منا يخلف بعده مدرسة، بئراً أو شيئاً شبيهاً بذلك، لكيلا تمر حياته وتمضي إلى الأبدية من دون أثر».
إذ لا حاجة إلى تضييع الوقت والجهد في البحث عمن ستكون بيده مفاتيح الجنة.
هذا غيض من فيض إنسانية أديب روسيا العظيم أنطون تشيخوف.
ألا ليت مثقفو هذا العصر يتخذونه قدوة ومثالاً في هذه الأوقات الصعبة.

* صحافي لبناني مقيم في موسكو