-1-
سيكون لي مطرحٌ بين الركام. نافذة فاض منها ماء البحر
وصارت أفقاً في الجحيم البعيد.
الماء والنار يجتمعان في قتل العواصم
ملح البحر وملح الكيمياء ينسجان للمدن القبور
للأحياء ما يخليه الوباء
وللبلاد ما يخربه الفساد
بيروت أغلى من الشمس
على بحرها الأبيض
وأحلى من كوكب
رسمته الذرة في فضائها الأرجواني

فوق معرض للكتاب
قريباً من ساحة الشهداء
هناك عند أول البحر
آخر الأرض
يقوم عنبر القمح والبارود
وتعلو سحابة الصيف كأنها تمضي إلى آخر الأرض
من جهة الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب
وترسم كرة النار في برزخ يسكنه ملاك الموت
مع جبريل
وأحد يفصح عن قهره
وآخر يفصح عن عشقه
وأنا.
أحبك في الحالين
مدينة الروح أنت.
فاصدحي: نشيدك الوطني.

-2-

كأنما الأرض تدور خلاف دورتها
وتقول إن الشمس قد غابت خلف ضباب من غبار الكيمياء
تاهت بنا الأرض، تهنا.
واستدار بنا المكان.
كان يرتجّ مثلما تفعل الريح بالورقة المرميّة من نافذة العشاق السكارى
الموت أشبه ما يكون برجفة الدوران
والذي يسبق صوت الانفجار
برق الغبار
في هيروشيما
أطلق الطيار
قنبلة الموت وطار
كان يحسب أن المسافة لا تميّز بين صرخة الموت وصوت الانفجار
وفي بيروت
يغلب الظن
أن ضغط الكيمياء
أسرع في التحوّل
صار البحر مقبرة المدينة
صار المرفأ برزخ اللهب المخصب
بين الحجارة والمحار.

-3-

ينتابني حزن مضاعف الأطوار حين أعرف ان من ماتوا قضوا في غرف الطعام. ومنهم من قضى في مقهى قديم على واجهة البحر. وأن أحلامهم كانت تمر كما الظلال على شواطئ الرمل. حلم يفاجئه الزجاج. وقد تناثر كالغبار حين تعصف الريح في الصحراء
يتضاعف الحزن، حين أرى على شاشة التلفاز ديك النهار مذبوحاً بزجاج نافذة المقهى. وأشاهد النادل وقد قذف به العصف ناحية البرلمان.
وكان الحراس يتشاورون في من أشعل النار. علت صفارة إنذار المطافئ. لكنها صمتٌ كمقبرة بعيدة. مزروعة وسط البحر. لا هي عائمة ولا تغرق
كم يزداد حزني وأنا أشاهد موت مدينتي، كأني في مهرجان شيكاغو لألعاب النجوم
حرب النجوم هنا بلا أقمار
حرب النجوم هنا بلا شمس
حرب النجوم هنا بلا ليل أو نهار
لا حرب في وسط المدينة
الدوان تاون لم يواجه غزو هولاكو
ولكن الدمار.
كان يرجّ الأرض يخطف السكان
عن سطح المكان.

-4-

حين شاهدت غيمة الكيمياء
فوق بحر بيروت
قلت: هذه غيمة تكفي سنة كاملة.
من الأمطار
ولكني سمعت الانفجار
كنت قد نسيت اسم ملاك الموت.
حسبت أن ملاك الوحي يأتي ومعه الخبر اليقين
كل من عليها فان
وسألت نوح عن السفين
والرياح السابحات
حتى استرحت وأيقظني الوعي.
كان حطام زجاج نافذتي
يرسم لي صورة الأحياء
على لوح الجدار

-5-

لأني اختبرت الحوادث
وقرأت تاريخ الحروب
تعلمت أن الحياة عبور إلى الموت.
وأن العمران أكل البداوة
وكل ما يقوم تحيله النار إلى سنختها.
وأن الهواء
يملأ رئة الأرض
بزفير الغابات
وشهيق البحار
ولكنه في لحظة الانفجار
يرتفع الماء
إلى عُلى السماء
وتمطر الكيمياء

-6-

كتبت مشهد البحر
أحسست أن العاصفة ستأتي
متى موعدها
ما كنت لأدري
كان يلزمني الحس الباطن
وخيال يسمو في الرؤيا
تدعمه الواهمة
الحاكمة
أن فساد الحكم
يفسد في الأرض
لكن ما كنت أحسب أنه سيكون دماراً
كما شاهدت. وتاهت واهمتي
أن تحكم في الأمر
لأن الموت يأخذ خيال ضحاياه
لا يبقى بعد الموت ما نحياه
لا يبقى غير رماد النار
وصور أحياء في مدن كانت قائمة من قبل
أضحت من بعد دمار

-7-

أعرف أني أحب المكان
وأن المكان محيط بقلبي
ولكني أحب بيروت بين الأماكن
مثلما الصيف بين الفصول
والنخيل بين الشجر
والبحر جارها ما قبل عهد نوح
أقول سفينة نوح كانت مدينة تشبه بيروت
تعصم الناس من شهقة الموت
ومن الجوع
والوباء اللعين
ومن عاديات السنين
وتعلم الحرف للحافظين
وتهدي الطريق للسالكين
وتحمل فوق بوابة سحرها
تعويذة. تطرد الشر
وتفتح أبوابها الساحرات
فاتحة العشق
تشهد العاشقين

-8-

سلام لبيروت
من جميع المدائن
كلّ الجهات
وكلّ الأماكن
سلام من سماء.
المجرات
وأعماق المحيطات
ومن حقول القمح
وحوض النيل
ومجرى الفرات
ومن صحراء آدم
وجبال المعارج
والعارفين
سلام لبيروت
من جمع المدائن
كل الأماكن
حانة العاشقين.

-9-

أعرفك.
ما كنت تشبعين من النظر في عيني
وقت نلتقي في المقهى البحري
قبيل المساء
كانت بيروت وراءنا
والبحر أمامنا
وأذكر أنني أضعت التنبه
إلى الفارق الجغرافي بين الخليج حين يدخل الماء في ثغر الأرض
وبين الرأس حين ترحل اليابسة في فم الماء
كنا نلتقي في المقهى
القديم كل مساء
تنظرين في عيني
وأنت جالسة قبالة المدينة
ظهرك إلى البحر وعيناك في عيني
وأنا أسبح في الأفق الممتد فوق الموج
كانت صحبة غريبة
وكنت تحبين بيروت
تقولين كأنما تشطحين
صورتي الحبيبة
ومنزلي الغريب
أسكنه في نظرة الحبيب
كما يفعل العشاق
حين يشطحون

* كاتب ووزير لبناني سابق

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا