ها هي ابتسامة مضيئة أخرى تغيب عن ملامح الوجود.. صوت استثنائي إضافي تخسره الحياة.. وها هو سمير حنا، بعينيه الدافئتين، ونظرته الصادقة، يرحل عن عالم لم يبد حياله ما يستحقّه من الود.. ابن الضيعة التي أبت أن تغادره حين جال في الآفاق بحثاً عن أمان منشود افتقده طويلاً.. ظل حتى لحظاته الأخيرة وفياً لها.. يبحث عنها في كلمات الأغاني وتلاوين الأنغام. يعيد صياغة مداميك بيوتها وإلفة مصاطبها، ورحابة الحواكير. غاب سمير حنا (1946 ــــ 2020) وسيتعيّن على الدنيا بعده أن تتعايش مع تضاؤل متزايد في القلوب الطيبة نراه يتفاقم حتى الندرة..ذلك الحريص على أصالة الريف، المتمسك بشراويل الأجداد، والأمين على شواربهم المعقوفة، غاب وفي وجدانه الكثير من الحكايات التي لم يكن يعوزها الكثير حتى تتحول إلى أغانٍ تترسّخ سريعاً في أعماق الذاكرة. عام 1946، أبصر سمير حنا النور في قرية كرخا الجزينية في جنوب لبنان، ثم ارتحلت العائلة إلى عين الرمانة حيث وجد نفسه في جوقة الكنيسة يشارك في ترتيل القداديس. حاز إجازة في الأعمال المصرفية، وحصل على وظيفة في أحد المصارف، لكن نداء الفن في أعماقه كان أكثر صخباً. كان في رحلة إلى مدينة زحلة البقاعية عندما لفت صوته العذب إحدى الفتيات المشاركات في الرحلة. دعته إلى حفلة غنائية في جونيه. وهناك التقطه الصياد المذهل سعيد فريحة. أعجب الصحافي المخضرم بصوت الشاب الخجول، فعرّفه إلى الشحرورة صباح. سرعان ما كان عليه أن يحزم حقائبه ليذهب معها إلى أفريقيا في جولة غنائية. بعودته من القارة السمراء، كان سمير حنا رقماً صعباً في عالم الغناء.
كان سخياً على فنه حتى جاوز رصيده من الأغاني حدود المئة. انحاز إلى اللون الجبلي الذي يلائم صوته، ويناسب ملامحه، وينسجم مع ابتسامته الريفية الصافية. غنّى 18 لحناً من أعمال الياس الرحباني، يعتبر «معليش الله يسامحك» أقربها إلى قلبه لأنها تعبر عن معاناة حقيقية. عاش سمير حنا علاقة حب عاصفة مع ملكة جمال لبنان هلا عون. تزوجا وأنجبا ابنة ثم وقع الخلاف بينهما، حتى وصل بهما الأمر إلى الطلاق. كانت مرحلة صعبة، يقول سمير، زادت الألسنة النهمة من قساوتها، عزّ عليه أن يحرم من رؤية ماريا، ابنته الوحيدة التي كبرت وامتهنت الطب وتميزت بجمالها. كان يتتبع أخبارها بصمت.
بينما كان سمير حنا يعيش مأساته العائلية، تفاقمت الحرب اللبنانية، تسللت إلى الزواريب التي كان الظن أنها آمنة. حينها اتخذ القرار الأصعب في حياته، هاجر إلى البرازيل بحثاً عن شيء من الأمان. احتضنته الجالية اللبنانية هناك. شهدت حفلاته نجاحاً يبرر الاعتزاز. كان بوسعه الاطمئنان إلى مصيره الفني لولا أن الحنين إلى وطنه وقريته كان طاغياً. قرّر العودة مجدداً إلى لبنان حيث وجد من يتذكرّه. لكنّ جيلاً كاملاً كان يجهله. آلمه الموقف لكنه تحمله بصبر اعتاد أن يكون رفيقه في الملمات، وهي كثيرة.
يبوح سمير بصدق: «دفعتُ الثمن كبيراً، وخصوصاً أنّ النّاس نسوا شكلي، رغم أنّ معظمهم لا يزال يردّد أغنياتي. إلاّ أنّ الجيل الحالي لا يعرفني، وهذا ما يؤلمني، لأنّ الفن الذي قدّمته والذي عدت من أجله، ليس على مسمع الجميع».
إهمال الدولة اللبنانية لمبدعيها كان أكثر ما حزّ في نفسه المتألمة. استغرب أن يحظى الفنانون الوافدون من الخارج بمكانة متقدمة على أقرانهم اللبنانيين، فوجئ بالإقبال الهائل الذي يحظى به بعضهم، وهم من أعمار أولاده، وبالمبالغ الطائلة التي يتلقّونها، في حين كان يتعيّن عليه وعلى أمثاله من أصحاب الأغنية اللبنانية أن يبذلوا الكثير من الجهد ليتمكنوا من الاستمرار فنياً. هالته تلك المزاريب اللبنانية التي كانت «تغدق على الخارج» كما كان يقول...
الأغاني التي حملت اسم سمير حنا أمكنها أن تجد طريقها بيسر نحو الذائقة المتلقية مثل: «ما زال بحب ربينا»، «معلش الله يسامحك»، «ياللي مش عارف اسمك»، «كنا سوا»، «من دواره لدواره»، «خصرك لما مال»، «تركيني أحسن بيكون»، «الليلة يا ويلي شو بدو يصير»، «يا قمر لو رحت بعيد» (لحّنها غسان الرحباني وكان في عمر الـ 14 سنة)، «خصرك لما مال» لإيلي شويري، «قالولي عنك دلوعة»، «قالولي كتبوا كتابا»، و«لبسنا شراويل جدودنا».
رحل سمير حنا عن العيون، لكنه ماثل في القلوب أبداً. يكفيه فخراً أنه غادر الدنيا كما جاء إليها. أغمض عينيه كأنه يختم بيتاً من أبواب العتابا ولم ينتظر تصفيق المعجبين...

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا