الدخولُ إلى عالم جورج أمادو (1912 ــــ 2001)، مغامرةٌ محفوفةٌ بالدهشة. يجعلنا الروائي البرازيلي المولود في باهيا، نقترب من هواجس شخصياته وأوهامها حتى نشعر أنها قريبة تسرد لنا ضعفها وشكوكها. في روايته «نساء البن» التي كتبها عام 1994، والصّادرة ترجمتها حديثاً عن «دار السّاقي» (ترجمة مالك سلمان)، تغيبُ الشخصيات البرازيلية وتحضر الشخصيات العربية التي تمسكُ بالسّرد وتقودُه نحو نهاية مطمئنة تليقُ بمجتمع هجين تمتزج فيه الثقافتان العربية والبرازيلية في أرواح تبحث عن الثروة والنساء، وتتعثر في طريقها إلى أحلامها.كأننا هنا في عالم «الفضاء الثالث» كما كتب المفكّر هومي بابا عن الثقافة الهجينة التي تنتج نتيجة اندماجها مع الثقافة الأخرى هويّة وكينونة جديدتين. هي لحظة خاصة نقف فيها بين عالمين متداخلين، الحدود الفاصلة بينهما هو أسلوب أمادو في جعلنا نرافق الشخصيات إلى عالمها الخاص، حيث تصبح القراءة اكتشافاً لهذا البلد وناسه.
لكن اكتشاف الأتراك لأميركا كما هو عنوان الكتاب بالإنكليزية، هو مغامرة لسرد حكاية مهاجرين عرب أتوا إلى البرازيل في القرن التاسع عشر، بنكهة تختلف عما روي عن البرازيل بعيون الإسبان أو البرتغاليين الذين اكتشفوها سابقاً، لأنّ «المروحة الإثنية التي لطّفت البرازيل كانت أكثر غنى وتنوعاً من التصرفات الأوروبية الملوّثة بالعادات الكولونيالية الانتقائية» بتعبير الروائي خوسيه ساراماغو في معرض تقديمه للكتاب.
تتحرّك كاميرا أمادو لتركّز على لحظات مهمة لشخصيّتين عربيتين، سُمّيتا «أتراكاً» لأنهما جاءتا من الدولة العثمانية، هما جميل بشارة، السوري من الطائفة الشيعية، ورضوان مراد اللّبناني من الطائفة المارونية. كانت صحبتهما دلالة على الانصهار الديني داخل المجتمع البرازيلي. لا يشكّل الدين عقبة للاندماج الكلّي في المجتمع البرازيلي، فمن الصعب أن نميّز بسرعة العادات العربية، لأنّ «نساء البن» تملأ المشهد حيث موطن الشهوة يزدحم بقصص الايروسية والمتع الجسدية. يتحدث أمادو عن هذا العالم المتفرد بنبرة متفهمة لخصوصياته، فيوحي لنا كأنه شخصية داخل الرواية، تتحاور مع هذه الشخصيات التي رآها وعايشها في باهيا، فهو يفكر مثل جميل حين يقول: «بعد أن تخلى الله عنه وتركه لإغواءات الشيطان، قضى شهرين يخوض معركته بمفرده من دون أن يصل إلى قرار». يتقمّص الروائي روح الشخصية ويتركها تسرد مزاجها الخاص بنفسها، لتصل إلى أوج حوارها الداخلي حيث تظهر بصورتها الحقيقية والمتناقضة، فنشعر أنّ الراوي لا يطلّ علينا من الخارج.
وهكذا تقف العمارة الروائية على حدث يشكّل النقطة التي تدور حولها الشخصيات وهي زواج الفتاة أدما ابنة إبراهيم جعفر، غير المتزوجة والقبيحة. يريد أبوها إبراهيم جعفر أن يزوجها مقابل أن يدير صهره مخزنه ويشرف عليه، وقعت عينا رضوان مراد، صديق إبراهيم على جميل بشارة، السوري، بينما أراد إبراهيم أن يزوجها لشخص آخر هو أديب (البرازيلي من أصل عربي). تجري الأحداث بالتوازي مع رفض أديب وقبول جميل، ولكن النهاية تنتهي بوقوع أديب في حب آدما في اللحظة الذي يوافق فيها جميل على قبول الصفقة التي حوّلته إلى شخص يقبل القبح ويحتمله مقابل أن يكون مالكاً لمخزن أبيها.
هذا القرار الذي يفكر فيه جميل، هو ما يجعل في الرواية عالمين موازيين هما النساء والتجارة. ورغم ثقافة رضوان مراد واطّلاعه، إلا أنه منغمس أيضاً في هذين العالمين، اللذين ينفتحان على أسئلة إنسانية وكونية وهي الذكورية، ومعايير الجمال والقبح والحب. فتلطيف القبح ورؤيته بطريقة أجمل، صارا هدف جميل الذي كان طامعاً بامتلاك المخزن، وقبوله بهذا الزواج ما هو إلا رؤية المرأة كأداة للدخول إلى عالم الثروة. لكن أمادو لا يصف هذا العالم إلا من نظرة متوازنة تراه كأحد تنوّعات الحياة في باهيا وغناها الاجتماعي الذي ينفتح على ثقافات أخرى.
لا يجعلنا أمادو نقع في أحكام نطلقها على الشخصيات رغم رأينا فيها، بل بتأمل القصة التي تتبع خط السرد المحكم الذي كأنما يريد قول شيء آخر، عن كونية الإنسان وانتمائه إلى أكثر من مكان في منطقة صغيرة في البرازيل.
المروحة الإثنية التي لطّفت البرازيل كانت أكثر غنى وتنوّعاً من التصرفات الأوروبية الملوّثة بالعادات الكولونيالية


هناك اهتمام بالتفاصيل والأحاديث الجانبية التي كانت تتداولها الشخصيات وباللغة التي كانت تتحدث بها، فيذكر أمادو أن الحديث الذي دار بين أديب ومراد بدأ بالعربية وانتهى بالبرتغالية. لكنّ آخرين قالوا إن الحديث بدأ بالبرتغالية وانتهى بالعربية، كأنها إشارة من صاحب «زوربا البرازيلي» إلى تماوج النغمتين واللغتين العربية والبرتغالية إلى حد الانسجام كأنهما عالم واحد حتى في الأقاويل والأحاديث والثرثرات. أمر يجعلنا نتساءل عن النهاية، فهل ستنتهي بالبرتغالية أم بالعربية أم هو تداخل اللغتين معاً؟
هي تجربة نرى فيها كيف يتشابك كل شيء، الحب مع الرغبة، الدين مع الحياة، التجارة مع الزواج، القصائد العربية مع البن البرازيلي، الظلم مع التجاهل، وهذه هي قدرة الروائي البرازيلي اليساري الذي كان يذهب دائماً إلى المناطق المهمّشة حيث القصص الحقيقية للناس العاديين التي تكشف وجه البلد الحقيقي، وهو ما عبّر عنه الكاتب الموزامبيقي ميا كوتو حين قال عن أمادو إنه «لا يكتب الكتب بل يكتب البلد». ورغم أن أمادو قد ترك عمله السياسي في الحزب الشيوعي في عام 1956، الا أن السياسي والأديب ظلا على علاقة وثيقة. كان صاحب «المحصول الأحمر» قد اعترف أنه سينحاز إلى الفانتازيا والتخييل حين قال مرة عن مهمته ككاتب إنّ «الكاتب يترك أثراً في القراء، وهذا بحد ذاته عمل سياسي».
هذه ليست المرة الأولى التي تحضر فيها الشخصيات العربية روايات أمادو. ففي روايته الشهيرة «غابرييلا قرفة وقرنفل»، نرى أيضاً نسيب السوري الذي يقع في حبّ الخلاسية البرازيلية غابرييلا والذي أطلق عليه الناس لقب «تركي»، وهنا أيضاً يدخل أمادو عميقاً في تقصّي الذهنية الذكورية. لكن في «نساء البن»، يتقصّى أمادو حقيقة ما مختلفة، حيث المضمون لا يتمحور حول إيجاد حلول أو تخيّل الخلاص، بل هو التآلف بين الذهنيات المختلفة التي كانت تتعايش في تلك الفترة حين اكتشف العرب تلك المنطقة المدهشة في العالم.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا