غيّب الموت أندريه فليتشيك الصحافي الاستقصائيّ والمؤرّخ وصانع الأفلام والروائيّ الأممي عن 57 عاماً. وقد أثار موته المفاجئ شكوكاً واسعة في أوساط معارفه وقرائه حول العالم، وهو الذي كان دائماً صوتاً عالياً ضدّ الإمبرياليّة الغربيّة، ووثّق بقلمه وعدسته جرائمها حول العالم من البيرو إلى أندونيسيا وما بينهما. وبحسب الصحف التركيّة، فإن فليتشيك توفي في إسطنبول بعدما وصل وزوجته في سيارة مستأجرة خاصة يقودها سائق إلى فندق في المدينة قادمين من منطقة سامسون على البحر الأسود شرقيّ تركيا. وقد حاولت زوجته إيقاظه عندما توقفت السيارة أمام بوابة الفندق (حوالى الخامسة والنصف صباحاً صباح الثلاثاء الماضي)، إلا أنّه كان قد فارق الحياة. وتحفّظت الفرق الطبيّة وأجهزة التحقيق الجنائي على جثته، ونقلتها بأمر الشرطة إلى معهد للطب الشرعي لتشريحها والتقصّي عن أسباب الوفاة. وعلم أن المدّعي العام في إسطنبول قد سارع إلى فتح تحقيق بعدما اعتبر تقرير الشرطة الأوّلي أن ظروفاً غامضة تحيط بالأمر.
وقد نقلت صحف غربيّة عن السيّدة روزي أنديرا فليتشيك قولها إنّ زوجها كان يعاني من مرض السكري ويتناول الأدوية بشكل دائم. لكن تقرير الشرطة التركيّة، وطبيعة التحقيقات الاستقصائية التي اشتهر بها الرّجل في مطاردته جرائم أجهزة الاستخبارات الغربيّة يرجّحان – أقلّه إلى الآن – فرضيّة الاغتيال السياسي. وتشير معلومات الشرطة المحليّة إلى أن الثنائي فليتشيك قد وصل إلى تركيّا من صربيا في الثاني عشر من الشهر الجاري، ويعتقد بأنه كان منكباً على إجراء تحقيق موسّع على الأرض عن مسألة قوميّة الإيغور التي تروج الولايات المتحدة أنها تتعرّض للاضطهاد على يد السلطات الصينيّة. وكان الرّاحل قد سافر خلال الأشهر القليلة الماضية إلى أفغانستان وسوريا والصين وأندونيسيا للغاية ذاتها. ومن تغريدة له على تويتر، فإن الخلاصة التي توصّل إليها تشير إلى مشروع خداع استراتيجي ضخم تتولّى إدارته المخابرات المركزيّة الأميركيّة وأجهزة عربيّة يستهدف دفع الأقليّة الإيغوريّة المسلمة إلى إثارة القلاقل لبكين، وتشارك فيه أجهزة الإعلام الغربيّ في تكرار باهت للثورة المتأمركة في سوريا. ويعتقد بأن تركيا هي الساحة الرئيسة للعمليّات في هذا الخصوص بالإفادة من قربها من المنطقة وخبرتها في إدارة «المجاهدين» وإطلاقهم جنوباً نحو الأراضي السوريّة ومنهم عشرات الآف من الإيغور. ومن المعروف أن الجمهوريّة التي يديرها إسلاميّو «حزب العدالة والتنمية» ـــ واجهة الإخوان المسلمين ـــ قاعدة إقليميّة رئيسة للجيش الأميركي وللمخابرات المركزيّة الأميركيّة في الشرق الأوسط، وتمتد عملياتها شرقاً نحو الجمهوريّات السوفياتية السابقة والقوقاز وجنوباً نحو العالم العربيّ، ولا سيّما العراق وسوريا وليبيا حيث لها وجود عسكري واستخباراتي واسع. وقد قُتل عدة صحافيين مهمين في تركيا خلال السنوات الأخيرة ومنهم سعيد كريميان، ومسعود مولوي وهما إعلاميان معارضان إيرانيّان قُتلا بإطلاق النار على يد قتلة محترفين، كما جمال الخاشقجي (الذي قُتل وقُطعت جثته بالمنشار الكهربائي في مقر القنصليّة السعوديّة)، وغيرها.
كان منكباً على إجراء تحقيق موسّع على الأرض عن مسألة قوميّة الإيغور


فليتشيك كان ولد عام 1962 في لينينغراد (روسيا) لأب كان عالم ذرّة تشيكياً وأمّ روسيّة صينيّة الأصل. وقد حصل لاحقاً على الجنسيّة الأميركيّة التي سهّلت له التنقل عبر العالم، فغطّى الحروب والنزاعات، وأرّخ للجرائم والمذابح الإمبرياليّة التي يتجاهلها الإعلام الغربيّ، وزار كل العواصم المعادية للولايات المتحدة ونقل انطباعاته الشخصيّة عن ناسها والتقى كبار القادة والصحافيين والمناضلين فيها. وقد كان يزور بيروت ويحبّها، ونشرت له «الأخبار» تقريراً عن زيارة قام بها إلى طهران، كما مقابلة معه حول المناضل الأممي الرّاحل سمير أمين.
نشر فليتشيك كتباً مرجعيّة عدة لا غنى عنها من أجل فهم طرائق عمل الإمبرياليّة الأميركية ومنها «الكشف عن أكاذيب الإمبراطوريّة» (2015)، «الكفاح ضد الإمبرياليّة الغربيّة» (2014)، «أندونيسيا: أرخبيل الخوف» (2012)، و«أوشينيا: الإمبرياليّة الجديدة والقنابل النووية والعظام» (2013)، إضافة إلى «المنفى» (2006) وفيه مقابلات مع منفيين سياسيين من بلادهم و«بشأن الإرهاب الغربيّ من هيروشيما إلى حروب الدرونات» (2013) وهو مناقشة معمقة حول الجبروت الغربيّ والبروباغندا مع نعوم تشومسكي. كما أنتج وثائقيّات عدة عن مذابح أندونيسيا (1965- 1966)، و«تشيلي بين زلزالين»، ومأساة اللاجئين الصوماليين المستمرة منذ عقدين في أكبر مخيم لهم شمال كينيا، إلى جانب فيلم عن مذابح رواندا يناقض الرواية الرسميّة عن مجريات الأحداث هناك.
وبغير المؤلفات والوثائقيّات السياسيّة، فقد نشر فليتشيك عدّة روايات أدبيّة، وآلاف المقالات في دوريّات عالميّة، وتكرر ظهوره معلقاً ومحللاً سياسيّاً على شاشات وإذاعات فرنسيّة وروسيّة وإيرانيّة. وبينما تمتّع باحترام واسع حول العالم، فقد كانت السلطات الأميركيّة تنظر إليه بعين الشك وتعتبره بوقاً لموسكو وبكين، ولم يستبعد كثيرون في الولايات المتحدة وخارجها بأنّه لو لم يلجأ جوليان أسانج إلى سفارة الإكوادور، لكان توفي بدوره في ظروف غامضة ستقيَّد حتماً ضد مجهول.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا