هذا رجل مبتل بالنشر، التلميح، الإعلان، التصريح. لا صفحة واحدة ولا خصر ناحل في المهنة، مهنة وجدها كثيرون مهنة ملء المكان الفارغ بالكلمات. حين وجدها رياض نجيب الريس ذات أثر، أثر طفيف عند الجماعة الأولى وأثر لا حياة بلاه عند رياض نجيب الريس. هذا وحش النشر السعيد بالنشر. رجل محور، على المحور، في المحور. أراد أن يقضي حياته على هذه الصورة، بدون أن تجفّ الإرادة هذه. إلا أن من يعتقد أن رياض نجيب الريس يُختصر بالنشر، متحصناً وراء مكتبه، ظهره للحائط، تاركاً روائح الجسد تدور خلف أيامه، إلا أن من يعتقد أن الريس يَشبع بذلك مخطئ، خطأ من يتأرجح عقله أمام نهر بفضوله الريفي عند أحد أكبر أولاد المدن العربية. المدينة مدينتان. بيروت ودمشق، ثم لندن. مدينة لم يجدها الريس صامتة أمام تدفق موسيقى العالم في بيروت وتدفق رائحة الياسمين في دمشق. رياض رومانتيكي. إلّا أنه ضد الأخطاء الرومانتيكية. حسبه عديدون خشناً، وهذا جزء من ارتجال العلاقة به. ابن المدينتين والثالثة. بيد أنه ابن قونية واسطنبول وطهران وموسكو وسمرقند وواشنطن ومدن الله الأخرى كافة، للزوجة الصيف في هذه المدن وسيلان الماء في الشتاء. أممي يسخر من الأممية، إذا كال له الأمميون المدائح في أفكارهم الأشبه بالخيوط. رجل إذا أشعل سيجارته، أشعل الصحو لدى الآخرين، الأصدقاء والأعداء، سواء بسواء، لأن الريس، بجسده الزائد، امتلك القدرة بالغريزة على أن يتحكم بمجاري الدماء في العروق عند أصحاب الأقلام المدربة وأصحاب الأقلام الهاوية. عند أصحاب الكفوف الصغرى والكفوف الكبرى. رجل يسيل التحفيز في عينيه وكلامه كما يسيل العسل الأبيض، ما لا يستطيع أحد أن يلمحه على الشفتين إلّا إذا امتلك البصيرة والبصر.
(مروان بوحيدر)

لم يترك الريس أحداً بالبرد، دون قميص يستره من أقراص البرد. لم يترك أحداً يصادر حقوق الآخرين وهو يدرب الآخرين، هؤلاء الآخرين، على حقوقهم. حقوق تصحو على معقود السكر ولا تنتهي في المداومة في المقاهي على ألعاب البوكر. لا الليخة ولا الطرنيب. لعب ورصد اللاعبين الآخرين، لكي لا تتحول الإقامة على الطاولات إلى كافور. رصد حار، إلا أنه إذ يلهب لا يحرق.
غرَّد الرجل وبلبل أمام من جاء بورقه، ليجد الورق في مدن نجيب رياض الريس، لا ينحرف عن إرادته. لأن أوراقه كتب، وكتبه بلطات تضرب في الجماجم الساردة على سطوح النوم. كل كتاب مدينة، مدينة بقباب تأخذ هيئات لا تأخذها إلا في دار نشز لا تمام إلا والبندقية بين ساقي صاحبها، من لا ينام لأنه ينام كما ينام السمك. السمك لا ينام. تظهر الكتب بأحلام رياض نجيب الريس، الكاره للصحو الهش والنوم الهش. معلم نقل التوتر بالتواتر، بدون تعليم وبدون إسراف. ذلك أن الريس، صاحب صوت مسرف بالعصيان، إذا جاء الصوت من وجه ضاحك أو من وراء لحية قاتمة، لأنه أطلق لحية، لم توصد وجهه كما أراد، حين أسفر ليلها عن صباحات، كأنها طريق، كأنها الطريق، بآخرها ضوء مبهج.
لم يوصد الباب على أحد وهو فوق كرسيه العريض، ثابت كهواء الظهيرة. كل دخول إلى مكتبه رحلة، حيث الكتب غابات بلا أشجار. لا يرف وهو يتكلم بواحدة من الابتسامات الملهمة، ابتسامة كابتسامات القتلة زرعها الريس في مسكب عطره، وفي مساكب أعذاره من لا يدرون أن التدوين عند الريس تدوين ناعم بأنامل خشنة. كل شيء خلف هذا الشرط عتمة، رعدة يديرها رجل لم ترعده فكرة، مغامرة كبرى، حدث جلل، حقبة، بحر ينبح بالملح وهو يفيض بالأسماك، بحر أقرع بدون أسماك. أو طريق من النكهات. كل داخل بمخطوط مفقود، كل خارج بلا مخطوط مولود من ولادة مخطوطه من الفراغ إلى أيدي الطباعين ببدلاتهم المبقعة بالأحرف والجمل والفقرات. هكذا، تكتظّ الرحاب في جلسات الرجل، من يتمتم حين يتكلم ومن يتكلم حين يتمتم. كل مخطوط آفل في حضرته، كل مخطوط على العتبة في حضرته، يفتح له الأبواب لكي يسكنه. إما يأفل المخطوط وإما يأفل صاحبه، إذ يرى الناشر في المخطوط غزالة على نبع ماء، غزالة على نبع نشر. واحدة من أجمل صفات رياض نجيب الريس أنه دالية لا عنقود. صدر مليء بالطعنات. غير أن الصدر لم يتحول، إلى سور من طين. إذ بقي الصدر رابية، روابي مرح ينزلق الجسد منه وظلال الجسد، كطفل يلهو بقطرة المطر الأولى. ضحك الريس، ضحك جزل. ضحك رجل جزل، يرقص على فكرة، على مشروع، على شارع من كلمات، على ساحة من أمنيات. كأنه ماء. الماء لا يهدأ. يضحك ويحلم ويخطط ويرتجل ويبقى ويرتحل ويمز كسل الوقت. لا وحده. لأنه تعود أن يغمز الآخرين إلى أوقاته، بقهقهاته العالية ومكره ومناشير لسانه اللاهية. إذا التقط المساء قهقهته، تحول المساء إلى صبية لاهين، من ومع مسامري وندماء من احترف العيش في كل المساحات إلا وراء الأبواب. لم يسلم الرجل رأسه إلا إلى الضحك. الضحك وسادته الأثيرة، إلا أن هذا الرجل بمقدوره أن يرتب الأحلام لجماعة والكوابيس لجماعة أخرى بالوقت ذاته. لم يخُن أحداً، لأنه لم يخُن نفسه. عنده: ثمة باب يهدي إلى باب يهدي إلى باب. كلامه كلام القلب، كلام لا يوارَب. حين وجد ضوءاً في كتاب «بيت النار/ الزمن الضائع في المسرح اللبناني» عبَر من هواء الضوء إلى وضع المخطوط على سقيفة النشر، على أعلى الباب لا على أسفله. هذه سياسته. وحين وجدت المخطوط نبتة أطلت، راح يظهر بالأحلام هارباً من الشوق إلى أقرب المدافن الرخيصة تحت سحاب لا تأكله إلا الكلاب الضالة أو الشاردة. راح يحرس خوف رجل المخطوط بالدوران على كرسي الجلد والكلام بخط بدون نحول، مؤكداً بأن المخطوط نافذته على المسرح في دورة النشر المقبلة. سوف أنشره، حتى لو دخل من هذا الباب توفيق الحكيم بمخطوط مسرحية أو قراءة بعالم المسرح أو اكتشاف ألواح مسرحية ذات نداءات غامضة. الغامض كائن رياض نجيب الريس المفضل. مخطوطك مخطوط الدار لن يغادرها إلا في كتاب. كما لو أنه الصاحي الأخير في بار تديره يونانية عجوز.
إذا حكى رياض نجيب الريس لا يكذب ولا يُكَّذب. إذا حكى، صدقه السامعون ومن لم يتسنَّ له السماع. بكلامه لون السماء. كلام بمحطات، كلام بمحطة تصعد إلى الصوت بدل أن يصعد الصوت إلى المحطة. إيه، إيه، إيه. هكذا يدفع الكلام إلى الانتظار، في انتظار سكناه في جسده وروحه. ثم يضحك. هذا رجل قادر على أن يدفع الكواكبي أو جان بول سارتر أو إيزابيل الليندي أو أنطونيو غالا إلى شد الحبل إلى جهته، لا جهاتهم لو جاؤوا بمخطوطات تحتوي ضجيج الليالي وأشرعة النهارات. جلسات سمره جلسات سمر، وجلسات شغله جلسات شد حبال. لأنه الأدرى، لأنه الأعرف. مجرّبٌ خبر القصور والغابات والغرف والأفلاك القديمة والجديدة، لأن يده، لأن يديه مملوءتان بتراب الأمس والغد. لم يجد في «ممالك من خشب/ المسرح العربي على عتبة الألفية الثالثة» إلا صفحات واسعة تزيد على تخميناته في نشر مخطوط في كتاب. وجد أن الكتابة في الممالك كتابة لا تنام ولا تسمح بنوم القراء لا من خلال القراءة ولا بعد القراءة. حوّل ثابته إلى متحول، حين نشر «ممالك من خشب» في أكثر من سبعمائة صفحة. راح يغير صور النشر قبل النشر. إذ اقترح نشر المخطوط في كتب لا في كتاب. وكلما نده عماد العبد الله، من أسميه عناد العبد الله، تتلاشى الصفحات كما تتلاشى الشجرات في حديقة لماعة. ثم نشر الكتاب. ثم أطلقه كذئب ينهش صدور الكلام بالكلام على المسرح بالعالم العربي. نقد المسرح، نقد النقد، في صعود متدرّج من الضباب إلى الهواء ومن الهواء إلى السماء. لم يصدره بيد عصبية، حين ربّاه على محو حضوره الثقيل بتدريب صاحبه على عدم نسيان الكبرياء باعتبار الكبرياء صنو التواضع لا الوضاعة. لم يغيّر عنوان المخطوط، لم يغيّر كلمة هادئة أو كلمة متّقدة. تركه على ما هو عليه، بالضوء والماء والغبار والروح. ما يبقى من الروح وما يزول.
رياض نجيب الريس ذاكرة. كل كتاب بداره يوم، شهر، سنة. المراسل الحربي في فيتنام وربيع براغ واليمن واليونان وقبرص والخليج العربي، لم يشابك يديه على التراسل الحربي ولا المراسلة الحربية، حين وجد أن الحروب كتيمة بعكس أصواتها الهادرة. لم يتهالك الرجل أمام الصفة هذه، حين بنى عليها ما يتخطاها، حين وجدها عشاً طار منه وحلّق إلى العوالم الأخرى. خاض ابن الحسب والنسب في أراضي الصبار وهو يبني قصوره الجميلة فوق أعشاش الحروب المختلفة الأسباب والنزعات والصرخات. هذه قطرة بانتظار النهر. لا يتوقف النهر لأنه لا يصغي إلا لصوته. رياض نجيب الريس نهر لم يصغِ إلا لصوته وهو يخالف الليل والنهار، لكي يُبقي المعنى في جيبه. لكي يعلّم الآخر الغفران وسط الحروب وعظيم طعم القهوة بين حربين وأكثر.
أخذ الرجل النشر من أطرافه، كل أطرافه. بدا كالطبيب وهو يقول للأصدقاء أن النشر ليس أفدنة مترامية من الأوراق. أوراق من خشب أو قطن. إن النشر شجرة تتنفس ولا تتغذى إلّا إذا غذى من يعمل بها البذرة في رحمها بكل أنواع المغذيات. النشر جسد يتنفس، عند رياض نجيب الريس، ذي الطلة الإنكليزية. إنكليزي لا يتوقف عن التدخين والتفكير وهو على الشرفة أو في المكتب أو في المقهى أو في الشارع. حسن الظن. هكذا يظهر دائماً. إلّا أنّ له حلوله. إنّه لا يلجأ إلى الحلول، إلّا حين يرى فكرة تذوي أو حين يجد في فكرة من الأفكار فكرة مجدية، كما حدث حين نشرت في «السفير» إعلان توقيع «بيت النار» في واحدة من دورات معرض الكتاب العربي، بعيداً من إعلانات الدار. حين وجد أننا لا نتنفس الهواء نفسه، طلب وقف نشر الإعلان المجاني، مهدداً بسحب الكتاب من المعرض ومن أية ضيافة أخرى، بمعرض أو مؤسسة أو جمعية. لم يرد أن أحشو فمي بالحلوى المزيفة. لأن أحداً لا يمشي وحده، حين ينشر عند رياض نجيب الريس. انبثق تهديده كما تنبثق شجرة، انبثاقها الأنيق وهي تؤاخي الهواء. أنيق على الدوام، لا ينفجر إلا نادراً. وإذا انفجر يبدو من انفجر بوجهه هشاً كالبخار. رفيق، أنيق، رخي، سخي. إنه كذلك في سهراته وفي جلسات المقهى والمنزل والسفر والمعرض والمكتب. كريم يضيف الجميع. كل الأوقات عنده أوقات سنانير. الأخيرة جلسات مسوح لطيفة وألفات. شرسٌ حين تتوجب الشراسة، نبع حين يتوجب الوضوء. سوف يجد كل الأسباب ليسأل عن الشخص هذا أو ذاك، أو لكي يرسل إصداراته بدون منة، حتى تتسلل كالأضواء إلى مداخل الصحف ومداخل المنازل والتلفزيونات والإذاعات. يوزع الإصدارات كما يهدي الحبيب زجاجات العطر، بدون ارتعاش، طابعاً بسمة على كل كتاب. لا يوزعها قطرة قطرة، لأن توزيع الكتب لدى مدخن السيجار الشره، توزيع سيل، توزيع سيولة. كل كتاب مخاض، كل كتاب ساعة زائدة في حياة زائلة. كل كتاب هدية. كتب تسخن حضورها، ثم تحضر. كتبه ككتب الآخرين، تكحل وتزخرف وتراق من أجلها الإمكانات. لوحة على وجه كل كتاب أغلفة مشغولة، حتى ليبدو أن صنّاعها أذابوا الشبة في كل غلاف. وكادوا يتركون خرزة زرقاء، على الأغلفة الطويلة الأشبه بالنساء. رياض نجيب الريس على ظهر الغلاف، عند الصباح، عند الظهر، عند المساء. وإذ لم يعجبه الغلاف، هزّ سطح الغلاف بحيث يزحلط شكله عن شكله على سطح الشكل. غطى الرجل إصداراته بارتعاشاته المفضلة، حتى ظهر وكأنه يسبح في طشتها كمراسل حربي، ككاتب مقالة في السياسة، ككاتب افتتاحية، كمنشات جريدة أسبوعية في لندن بعنوان «المنار». جريدة أسبوعية: هذا إسراف بالتفكير، هذه مغامرة تسخين النحاس على البطن، تذويب القصدير بين العينين. الورق قماش الرجل. فصل من القماش الخاص به، «الناقد» و«النقاد» وجوائز التحفيز واختراع الأسماء، كيوسف بزي ويحيى جابر وعماد العبد الله. إخراج الموهبة من العري إلى تفصيلها على قماش النشر، على الورق الصارخ بلونه الأصفر ومواده النازفة من الشقوق والوجوه والخامات والخانات. كلّ من يقصد الريس يستحم في إناء عريض بعد تعوده الاستحمام بالأواني الضيقة. كل من يقصد رياض الريس، لا يلحظ على ملابسه غبار العراك، بالرغم من ما خاض من عراكات على أرضه وعلى الأراضي الأخرى. حين يضع إصداراً على الحائط، هذا معناه أن المخطوط خرج من العتمة إلى السمت الأول، ما يلوح كالحقل بلا سياج. عراكات الريس مع الأهواء والأغراض. عنده كل شيء مغلّف بالرغبة. هكذا، أخذته رغباته إلى تعقّب كل ما يتفتّح، من الياسمين الدمشقي، إلى التغطية الميدانية، إلى الدراسة والبحث والتحليل والإصدار ومعاقرة التبغ الفاخر والمشروبات السائلة في الليالي الصلبة والكشكول ودار النشر. لا ضرورة للكلام على تلويحاته الكبرى لدول الخليج العربي، كواحد من الأفضل في قراءة ما يراه، ما لم يرَه حتى بعض أصحاب البيت، من «الخليج العربي ورياح التغيير» إلى «صراع الواحات والنفط». كل كتاب كتاب مدرب على موضوع، حدث، قضية. رياح الشمال، رياح السموم، صحافي ومدينتان، قبل أن تبهت الألوان، مصاحف وسيوف. عناوين تغرّد كالبلابل. كل كتاب صدر يرتج باللمحات، ما يفرّ من بين الأصابع، إلا أصابع رياض نجيب الريس.
هذا رجل يحبّذ تدبيج الرسائل في النشر، هذا العربي، العروبي، شرفة الناس على الحياة كلما فتح أزرار قميصه. لطالما أحب الأمر. هذا رجل لم يحلم بجسد ممشوق مجدول العضلات، قدر ما حلم بالكتابة والنشر. محترف يدب الاحتراف فيه دبيب الخمر في قصائد أبي نواس. محترف المستحيلات. سلط مشروع «القبس» على نفسه، لأنه وجد أن عودة قبس نجيب الريس أقرب إلى المستحيل. ولأنها كذلك، دخل فيها وهو يراها تسقط أمامه، تسقط من فوق رأسه بعيون تستعين بالتعب على النشاط. كل مستحيل مشروع رياض نجيب الريس، كصحيفة والده. خلَّف الوالد ولداً وجد نفسه شيخاً في طفولته. خلف الوالد ولداً، وقع في هواه مذ وعى على صوره وهو يدلل على أحلامه ضد القبائل والفرسان المقتولين في الغزوات على صهوات خيولهم. حين جئت إلى الدار لأخذ ما سال من يديه في كتب لمشروع النهوض بالمكتبة الوطنية، دفعني إلى الانزلاق إلى كتب والده. إذذاك عامل والده حين كأصغر إخوته، وهو يطلب من زوجته فاطمة توضيب كتب نجيب الريس لا رياض نجيب الريس، لتقف على واحدة من رفوف المكتبة. إذذاك، بدأ المرض يتمكّن من رجل وجد في النشر مهنته، حرفته، حياته الأولى وحياته الأخيرة في بيروت. مدينة لم يلبث أن تركها حين انهمر عليها مطر القذائف وخبَّت بها أحصنة التعصب والطائفية. وجدت نفسي كالأحمق، حين شكرته على نشر «ممالك من خشب» بعدما رفض شكره. شكراً لك، لا شكراً لي، قال. تكتب لتنشر وأنشر لأربح. لطالما وجد نفسه في طريق أحبها، طريق لم تتسع لكثيرين. لا لأنها ضيقة، لأنها تحتاج إلى عرف على الرأس وحدوات في الأقدام. لأنها مهنة الخيول والخيالة، خيول على صهواتها في واحدة من الصور السوريالية المخضبة بدماء صناعها.
أخذته رغباته إلى تعقب كل ما يتفتح، من الياسمين الدمشقي، إلى التغطية الميدانية


تشبث كثيرون برياض نجيب الريس. إنهم على حق في تشبثهم به، إنهم على حب في تشبثهم به. لأنهم وجدوه على طريق لا نهاية له. طريق لا ينتهي إلا بنهاية سالكه. رياض الريس، رجل بجذع عريض، بحار على رمل الحياة، لا يخرج من مركبه إلا لملاقاة الأصدقاء والأعداء. حين سمعت أصوات الجنادب في بيروت ذات نهار، اتصلت بالرجل، من خانه جسده لا حكمته ولا نزقه. جاء صوته على الهاتف، صوت من لا يزال يحسن الكلام، الحب، الحياة. صوت من وجد في كتابة مذكراته وهناً، ولو أنه دوَّن بعضها في «صحافي المسافات الطويلة». أعرف لِمَ رفض رياض نجيب الريس كتابة مذكراته. لأنه لم يرد أن يعلق شمس خريفه على رأسه أو فوق رأسه. دمدم قليلاً، تمتم قليلاً، برطم قليلاً، ثم سكت، منطلقاً إلى الحياة بدون حياة. هذا آخر الحياة: حياة بلا حياة. لم يسأل العابرين من المارة عن حياة عبرت تحت عينيه بسرعة ركن ضيق. خرج كمقاتل لملاقاة عدو حياة، لم تلبث أن تحولت إلى حياة من زجاج مع جلسات غسيل الكلى، وحين لم يجده أدرك أن المهارة في الحد من الخسائر، لا في مواجهة الأهوال بالآمال الكاذبة.
لم تعنِ الرجل الديموغرافيا، قدر المنافسة على الموارد وتعزيز الفرص المحدودة وتطويرها، بحيث تطال أوسع الشرائح في مختلف دول العرب. الاقتصاد عنده: نعمة. إلا أن النمو الاقتصادي هو الأساس. لم يدوّن الأمر في منبته، منابته، إلا أنه زفّ مقاماته بكل المناسبات، فوق الاضطرابات الاجتماعية والنزاعات السياسية في العالم. نيوليبرالي. يساري لا نيوليبرالي هو القلق أمام مفهومي الإقصاء والبطالة. ذلك أنه غالباً ما ربط شغله في برامج إنمائية خفية، توقعت معالجة المشكلات هذه بالطرق الخاصة، لهذا الرجل الدوار بين قيم التعايش السلمي ومواجهة الشدة وبواعث القلق والاضطراب. محرض أكبر المحرضين على شق الحيطان العادية، حيث العالم الحقيقي خلَّف الحيطان هذه، حيث أن رياض نجيب الريس اللاطوباوي، باعتباره أن النزاعات تقوم لأنها ضرورية، لم يقف في يوم تحت شلالات الصدف، وهو يعمل على تعزيز الارتفاعات المتعاظمة لجيل الشباب في مجابهة التطرف والردكلة وكتبة التقارير والاستجابات الضيقة والتقليدية للدول والأنظمة الغارقة بالفقر وسمات التراجع المتخلفة. ولأنه صاحب قيامة دائمة، صاحب قيامات دائمة، كتب حضوره على جلد العالم المشدود على العطش إلى الحرية والديمقراطية. نازع رفيق الحريري، ثم صادقه. نازع طلال سلمان، نازع أوطان النار بإطلاق الصقور لا بإطلاق النبوءات. داره مدخل معرض الكتاب العربي، حضوره بوابة من بوابات المدينة، حين يغيب يترك ظلالاً بريئة، براءة الأطفال بالريف. مكتبه مستودع السير، ما أن يقتحمه حتى يضحي الشاي لطالبه عشب العظمة والقهوة قهوة سوداء تتنفس كل الألوان. نجمٌ مطلقُ سراح النجوم. لأنه هو. هو، من هو أهم من كتبه، لأن كتابه الأول هو. هو كتابه الأخير. هو أول نفسه. رياض نجيب الريس أول نفسه وآخر النفس، حتى آخر نفس.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا