لعلّ ما يميز الجامعيّة التونسية ألفة يوسف المختصة في علم اللسانيات والتحليل النفسي، أنّها من الباحثات العربيات الأكثر جرأة في سبر الموروث الديني الخاص بالنساء عبر منهج النقد والمقارنة. يعتبر كتابها «حيرة مسلمة ـــ في الميراث والزّواج والمثليّة الجنسيّة» الذي أثار جدلاً واسعاً، من النصوص التي صنعت شهرتها. في عملها الجديد «وليس الذّكر كالأنثى: في الهويّة الجنسيّة» (الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسم _ 2014)، تعالج الباحثة أحد أبرز المحرمات في العالم العربي. تنهض الفرضية الأساسية على التمييز بين الهويّة الجنسية والموضوع الجنسي. فكرة المادة أتت في الأساس من قصة تناولت الهوية الجنسية من منظور المزاوجين bisexuels ممن ينتمون إلى جندر واحد، ولكنهم يمارسون الحبّ مع الجنسين. إنّها قصة «أ» (امرأة رمز لها بهذا الحرف) التي تحدثت للكاتبة عن مشاكلها الجنسية بسبب علاقاتها المتعددة الغيرية hétérosexuelles والمثلية homosexuelles.

قسمت صاحبة «شوق... قراءة في أركان الإسلام» دراستها إلى قسمين: كتاب الرجل وكتاب المرأة. عملت على تبيان خصائص الذكورة والأنوثة انطلاقاً من علاقات «أ» الجنسية والعاطفية في أبعادها المختلفة من جهة، والاستعمالات اللغوية والتمثلات الثقافية السائدة في تونس وفي الثقافة العربية الإسلامية من جهة أخرى، واستندت إلى القراءة التحليلية النفسية.
تنطلق بداية كل فصل ببعض تجارب «أ» التي تطرقت إلى مسائل عدة من بينها طلب بعض الرجال الحديث عن عضوهم الجنسي. تخلص الكاتبة إلى أنّ إثبات العضو الذكري ثقافياً ولغوياً، يؤشر إلى قوة دلالية مفعلة في المجتمع، كذلك إن الأسس النفسية لإثباته تحدّد الانتماء إلى مجموعة الذكور، وهو يحتاج أيضاً كي يثبت هويته تضافر الاعتراف الأنثوي بوجوده.
تعود صاحبة «تعدد المعنى في القرآن» في تحليلها إلى عقدة أوديب، المفهوم الذي أسسه سيغموند فرويد (1856_ 1939). بعد شرح المرحلة القضيبية للذكورة، بوصفها بناء. ترى أن دعوة بعض الرجال شريكاتهم إلى إثبات عضوهم الجنسي بالحديث عنه، هي وجه من وجوه تجسيم وجوده لدى الذكور مقابل تأكيد غيابه لدى الإناث.
تضفي اللغة على الرجولة معنى جنسياً فعلياً ومعنى قيمياً مجازياً. الرجولة في معنييها الأصلي والمجازي ليست معطاة بل هي بناء. تحلِّل الكاتبة حضور الدّال القضيبي بوصفه رمز القوة في الثقافة العامية التونسية، فتفكك بنيتها عبر دراسة بعض المفردات العامية الملتصقة بسياق الرجولة التي تحدّد حضور الذكر تبعاً لمقدرته الجنسية التي تراوح بين الامتلاك والضعف. وكي نقارب التحليل بشكل تطبيقي، تشير اللغة العامية التونسية إلى العجز الجنسي باعتماد عبارة «فلان ما عندوش كرارز» أي فلان ليس له خصيتان ويقال عن الشخص القادر على الفعل الشجاع «فلان بكرارزه» أي «فلان له خصيتان».
تحلّل حضور
الدّال القضيبي كرمز للقوة في الثقافة الشعبية
تشير صاحبة «ناقصات عقل ودين، فصول في حديث الرسول» إلى أنّ المخيال الثقافي العربي الإسلامي يعتبر غياب الانتصاب والإيلاج، أساس العجز الجنسي الذكوري، كونهما العاملين الأساسيين في تحقّق العلاقة الجنسية. وتذهب في تحليلها النفسي إلى أنّ وصف رجل بأنه شبيه بالمرأة خطر عليه، ليس بسبب إدراجه في صنف النساء، ولكن بإرجاعه إلى موضع الطفل المطيع للأم بصفتها الأنثى الأولى.
تتناول يوسف الأسس النفسية لقلق الخصاء الذي لا يعني قطع الأعضاء الذكرية، بل الخوف من فقدان ما يتصل بالعضو الذكري من قوة في المجالين الخيالي والرمزي. تحاول تفسير ما حدث مع «أ» التي تعرضت للعنف من قبل بعض الرجال بسبب عجزهم عن تحقيق فعل الإيلاج الجنسي، فتقول: « هذا الضرب من العنف يتصل نفسياً بتصوّر المرأة الخاصِية استناداً إلى العلاقة بالمرأة الأم أو بالمرأة الحبيبة/ الشريكة». ليست الأم الخاصية الوحيدة المهددة للذكر. فانتازم المرأة الخاصية يمتد ليشمل علاقة الرجل بالمرأة أكان في المجال الجنسي أم سواه.
ترفد صاحبة «الإخبار عن المرأة في القرآن والسُنّة» دراستها بأهم المراجع الذي وضعها فرويد والمحلِّل النفسي الفرنسي جاك لاكان (1901ــ 1981)، الذي اشتهر بمساهمته التعريفية بالتحليل النفسي الفرويدي في ثلاثينيات القرن المنصرم، وتستعين أيضاً بمؤلفات المعالجة النفسية الفرنسية فرانسواز دولتو (1908 _ 1988) لا سيما كتابيها «الأنثى» Le Féminin و«حياة الأنثى الجنسية» Sexualité féminine.
تتابع يوسف مقارباتها على مستوى اللغة والتحليل النفسي في معالجة الفعل الجنسي الذي يجعل الرجل فاعلاً وليس منفعلاً، والمرأة منفعلة وليست فاعلة. ثقافياً، تعمد اللغة عموماً إلى أسماء فاعل في الإحالة على الرجل في علاقته بالمرأة، وإلى أسماء مفعول في الإحالة على المرأة في علاقتها بالرجل. الأخير هو الخاطب، والمرأة هي المخطوبة، والرجل هو الناكح والمرأة هي المنكوحة. أما على المستوى النفسي، فإن نفي الانفعال عن الرجل، ونفي الفعل عن المرأة يشيران إلى دلالات سياقية نفسية متتابعة ولاواعية. ويحملان بعداً اجتماعياً تشكّله سلسلة ضوابط تقنّن لذة النساء في الغالب، ومن ضمنها مسألة الختان. الأخير يعدّ مكرمة لدى بعض الفقهاء، على اعتبار أنّ المرأة المختونة تفقد الكثير من شهوتها، وبذلك لا تثير فزع الرجل. لكن متى تكون المرأة فاعلة؟ تؤكد يوسف بناء على التحليل النفسي والثقافي الذي طابقته مع بعض حكايا «أ» أنّ الأنثى لا تكون فاعلة إلاّ بصفتها مغرية وفاتنة لا مشتهية ومتمتعة، وفعل الإغراء هذا يمثل خطورة نفسية بالنسبة إلى الذّكر.
في الجزء الثاني من الدراسة، تدرس يوسف التصوّرات الثقافية واللغوية حول الأنثى الموسومة بالنقص مقابل الذكورة الكاملة والفاعلة. اعتماداً على ما روته «أ»، تبيّن الأسس النفسية للشوق إلى العضو الذكري لدى النساء أنّ كلاً من الذكر والأنثى يتموضع استناداً إلى العضو الذكري سواء من منظور الفانتازم الخيالي أو من منظور التمثل الرمزي. بين الخلاصات التي تخرج بها يوسف أنّ الشوق إلى العضو الذكري هو الذي يُنشئ التأنق الجسدي لدى المرأة، فهي تعتبر جاذبيتها وجمالها تعويضاً متأخراً عن نقصانها الجنسي الأصلي.
تحيلنا الكاتبة على المخيال الثقافي المتوجس من فتنة النساء وقدرتهن. توجس يتمظهر في نصوص تراثية وحكايا شعبية شأن «ألف ليلة وليلة» وفتاوى الفقهاء الذين نظروا إلى الأنثوي بوصفه مكمن الخطر، فذهب بعضهم إلى منع النظر إلى فرْج المرأة خشية أن يورث العمى.
«وليس الذّكر كالأنثى» كتاب قد يصيب القارئ بصدمة إذا كانت لديه حساسية تجاه وطأة التحليل النفسي وخلاصاته، أو إذا كان شديد الخجل من اللغة الصريحة المستخدمة فيه. لغة تقارع المكشوف والمستور في هويتنا الجنسية المعقدة.