لا يعمل زاهي وهبي في مدار الكتب التالفة. دخل تحت أغطية الليل المفتوح في تلفزيون «المستقبل» (خليك بالبيت)، حيث استضاف وجوهاً وأسماء من الفرسان الوسيمين والفارسات الوسيمات. مكرّسون ومكرّسات في جميع الحقول، من الرئيس رفيق الحريري والسيد حسن نصر الله إلى يسرا ونور الشريف ومحمود درويش وسعيد عقل والعشرات، ما شكّل ذاكرة ثقافية لحقبة من أهم حقبات بيروت. لا يهمه أن يسند يده إلى كنبة مهملة في برنامجه الأخير «بيت القصيد» (قناة «الميادين»)، ما دام «المود» الثقافي في حواراته الثقافية حاضراً من حضوره في برنامجه الأسبوعي. برنامج لا يندس كالخبيئة وهو يعلن سياسته الواضحة على الهواء بالتواتر مع الوضوح الأقصى. هذا برنامج بعيد من الأيقونات الثقافية وفي قلب الحدث الثقافي. ضيوفه يراوحون بين ارتداء الأثواب القطنية المشدودة والبلوز المتهدلة على الأجساد. الثقافة عنوان في حياة هذا الرجل، لا ينفك يستحضرها بكّل الوسائل. وحين تغيب الأخيرة يعمد إلى ممارسة الحيل (قرأت لكم، ست الحبايب)، لأنّ الثقافة في برامجه على سرير الملك، حين يلعب وهبي دور شهريار وشهرزاد في آن. قدم الرجل برنامجاً ثقافياً في تلفزيون «الجديد» بعنوان «بين هلالين» (برنامج تغطيات ثقافية لا حوارات ثقافية في ثمانينيات القرن العشرين)، ثم قدم «خليك بالبيت». بعدها قدم «بيت القصيد» على قناة «الميادين» (هذا إذا لم نُشِر إلى مشاركة وهبي في «الليل المفتوح» على تلفزيون «المستقبل»). قدم البرامج الثلاثة بجسد متوسطي وعقل أوروبي لا يترك للصدف محلّاً. هكذا، ذهب في الابتداع لا التدوير وهو يقفز بعيداً من البرامج الثقافية التقليدية على ندرتها، حتى بدت الأخيرة شديدة البرودة أو شديدة الرطوبة أمام الجاهزية الثقافية في «بيت القصيد» و«خليك بالبيت». بيتان حرّرا البرنامج الثقافي التلفزيوني من سوائل الكلام والاستعارة. رفض وهبي الاستعارة، حين لم يتكئ إلى مفهوم الأيقنة، إذ اندفعت الأقنية اللبنانية إلى الاقتباس والترجمة من خزنة وذاكرة ما قدمه الغرب للغرب. رفض المقدم، المعدّ، الشاعر، الصحافي، الأمر متنزهاً في شوارع نفسه مع أشكال لا تُذكر لمصوغات البرامج المذكورة، بولع شخصيّ قام على فكرة توسيع المشهد الثقافي على الأقنية التلفزيونية، بالروح الشخصية والشغف الشخصي واللون الشخصي. لا يزال برنامجه الأخير «بيت القصيد» يلعب على الهواء منذ ١٢ سنة كما تلعب الطيور المقيمة في السماء البيضاء وهي تكبر وتتلاشى من خلال اللعب ذاته. نهر لا نراه. هذه هي المحصلة الأولى للوقوف أمام حلقات «بيت القصيد». ٤٨ حلقة في العام مضروبة بـ ١٢ سنة. هذا معناه ٦٠٠ حلقة تقريباً، أو ٦٠٠ مثقف وفنان وناشط في المجالات الفنية والثقافية في سنوات الضباب الملفوف على الثقافة والفن والهواجس المزواجة بين هموم الحياة وهموم النجاة من المذابح والمجازر من أول العالم إلى آخر العالم.لا استهانة ببرنامج ثقافي يواجه ــ بقصد وبدون قصد ـــ مواقع التصارع والتهافت على مواقع التواصل والطنين الإلكتروني في قلب خارطة العالم وعلى جنباتها، وانقلاب شروط ومعايير النشر، أمام اختفاء أهم الصحف والمجلات. عينان واسعتان لا تحدقان بالفراغ، حين تعملان على الإعداد للحلقة بقوة حصان ابتداءً من المقدمة، أو منقار البشارة كما أسميها، لأنّ أحداً لا يستضيف أحداً لا يحترمه. الاحترام في المقدمة صدّ للكره الدائر في فضاء عالم الثقافة. حب بالقدر الكافي، في قلب النحو وبعيداً من المعاجم. وقوف على ميزات الضيف أو تأهب للإقلاع إلى عالمه، من حرف إلى حرف. إذ أنّ وهبي لا يترك الأصدقاء وغير الأصدقاء على السلالم، يصعدون ويهبطون كما يشاؤون. رسم للشوارع المرحة ورسم للشوارع الجادة، ثم دمج الشارع بالشارع، بحيث يغدو الشارعان شارعاً واحداً، لا تختبئ فيه الثقافة في طيات ضيف الحلقة، من يسرف بأعماله في التبغ والكودايين، ومن يترك التبغ يصعد في كل الأمكنة إلا في أمكنته.
يحضر وهبي للاستضافة بقسوة، حين يراه الأصدقاء في المقهى منفرداً، كما لو أنه بين أحصنته وعرائسه. يُتاح له أن يقوم بدور المعلم، غير أن هذا الدور من الأدوار المرفوضة لديه. إذ يرى في التعليم وجه المعلم الغاضب أو وجه المعلمة الغاضبة من البثور على وجنتيها. معلمة أو معلم يعنف. يكاد الرجل يحمي ضيوفه من مطر وهميّ ينزل في الاستوديو بمظلة. الاحترام زهرة «بيت القصيد» بعد إعداد يحترم الضيف والمعد من احترام الإعداد. الحلم في الحوار. حوار بعيد من كتب التنجيم وإبراز بطاقة الشرطي في وجه الضيف. كأن الضيف يستريح من المشي في المقهى في «بيت القصيد». كلام حميم، إلا أن الكلام الحميم لا يحاذي النقد، حين يدخل في النقد بالعلامات الضرورية. لا بالصعود على العمود الفقري للضيف وشده إلى الأسفل. الرغبة بالطيران واضحة، لمَّا أنها رغبة، لا يراد منها صيد بلابل الثقافة ولا حساسينها على أشجار الثقافة. يجادل وهبي في أثر الاسم، لا في حجم الأنف والعينين وصلابة الأظافر. لن يتعثر باسم، ما دام يختار الأسماء، لا من أثوابها ولا من أسمالها ولا من مصالح مشتركة. ثبت المواضيع، ثم دخول بالعين الواسعة لاختراق الهواء والتحرر من الفراغ. يلزم الأمر انكباب على الخرائط والرسومات والخلفيات والأزمنة النحوية للضيف. لا يغيب عنصر من هذه العناصر، لكي لا تتحول الأدوار، بحيث يضحي الضيف سائلاً يخلي الاستديو من أحلام قائده ورئيس تحريره. لا يقدم وهبي هدايا سانتا كلوز، ولا يقيم السادية، كحد من حدود بين المُحاوِر والمُحَاور. لا نرجسية هنا. الثقافة في البرنامج ثقافة صديقة، تسلّي بدون أن تسقط في التسلية، ولا تنهر بحيث لا يعود الآخر يحسن الظن بها. لم يلجأ الرجل مرة إلى التموضع في وجه الضيف، لأن «بيت القصيد» ليلة رائقة، لينة النسيم، إلا أن الجمر فيها في أسفل حقولها المترامية من القطن وشجره.
يتنفس الجميع الهواء نفسه في «بيت القصيد». يدخلون الحقل نفسه، لأن الغاية خدمة الثقافة لا تسليمها إلى النوتيين عند أول الليل. هناك نبع خفي لدى زاهي وهبي. نبع لا ينفجر. ينبع يكرّر حضوره، ساجياً في ذلك الاستديو الصغير، الحميم في منطقة فرن الشباك. الأسباب كثيرة للسؤال. المهم أن تُحوَّل البذور المهملة إلى إجابات، لا ثقيلة الأهداب ولا ضاحكة العينين. عند وهبي القدرة على لبس المواقف واللعب على التوازن بينها، لكي لا تحلّ النهاية قبل النهاية. الجميع صديق، يصبح صديقاً أكبر، أكثر، في أوقات الشدة. من يراهم يظنهم واحداً في حضانة وهبي. هكذا، تنجح المساعي دائماً في إنتاج حلقات على درجة واضحة من الإفادة والإمتاع، بدون ازدحام أو اصطدام. ثمة من ينفجر يرغمه، من فرحه برؤيته بالظلام ما لا يراه في الضوء خارج الاستديو. المسرحيون والسينمائيون وكتاب الأدب والصحافيون والسينمائيون، كلهم يبحثون عن لقى يجدونها في «بين القصيد» بيتهم... لأن البيت لا تأخذه بهجات الطيش، كما في برامج التفليك على الأقنية الأخرى، حيث لا هجرة إلا الهجرة على الحلقات المبلطة بالتواطؤ والفراغ والاستعراضات الخارجية، ولأن وهبي لم يحصل ثقافته من مناماته، حين حصلها من السباحة مع قروش الثقافة والفن والإعلام وكل من يتمتع بتخطيط عصبي يتيح له الظهور على الآخرين، كمنتقل من قطار إلى قطار آخر، يرفع اللقاءات على ظهورها لا على بطونها.
ميزة البرنامج أنه يقف على تقاطع الطرق بين الأجيال، الكبار والشباب


لا رفع لسبابة ولا لإبهام في وجه الضيوف، من مختلف المشارب والأعمار (عكس الحال في «خليك بالبيت»، حيث هدير المكرسين). ميزة «بيت القصيد» أنه يقف على تقاطع الطرق بين الأجيال. الكبار والشباب. من يمتلك لحظة، يفتح المشهد أبوابه أمامه. يبزغ حضوره كما يبزغ حضور طائرة على مدارج الطيران. كلّ من يمتلك صوتاً، يسعه أن يُسمِع الجمهور صوته في «بيت القصيد»، حتى ينضج شاي الصوت ليمضي في الفضاء الجديد.
«بيت القصيد» بيت مواعيد طيبة، بين مواعيد النهار والليل والليل والنهار، لا بيت يخرج صاحبه للبحث عن فرائس والعودة بها، كما يفعل مصاصو الدماء في الأفلام الأميركية، حيث يغرق هؤلاء في العتمة بعد أن ينتهي الصيد. كل من يظهر في البرنامج، يضعه البرنامج في النور ببطاقة سفر بوجهة واحدة، ما لا يسمح بالعودة إلى الظلام. برنامج سعة، روزنامة الرجل بعد ثلاثين عاماً من التدرب والتدريب. لا يذكر أحد ما يذكره معدّو البرامج الثقافية النادرة في تلفزيونات لبنان والعالم العربي، من أن العمل في البرنامج الثقافي يحوّل المعدّ والمقدم من منتج ثقافة إلى مستهلك ثقافة، ما يضع قدميه في نوع من أنواع الهشاشة تحت الهواء. جزء من تضحيات لا يلاحظها إلا أولاد المهنة. جزء آخر: انتزاع القراد من أجساد المستضَافين. شيء على النقيض من الشخصية الثقافية، يندرج فيها زاهي وهبي، لكي لا يفوت الأوان بعد، لكي لا يقع الإرسال في الأحادية. من رفيق علي أحمد إلى كارلوس عازار ومن تانيا صالح في لبنان إلى هزاع البراري مدير عام وزارة الثقافة في الأردن وزهير النوباني ورولا حمادة وفنانين ومثقفين من مصر وسوريا والعراق وتونس والمغرب وكل بلاد العرب. بيكار «بيت القصيد» لا يترك أحداً ممن يستأهلون الظهور، لا مجرّد لوح من خلف زجاج. استخدام موهبة التقديم ودربة الإعداد، لا المواهب الكاذبة ولا الإعداد الملفق. هذا آخر برامج لا تعوي بنات آوى في محيطه، لأن من يقوم عليه لا يشعل سيجارة من سيجارة كعلامة من علامات الثقافة المضحكة.

* «بيت القصيد»: كل سبت 21:00 على «الميادين»

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا