«ما أوسع الثورة، ما أضيق الرحلة، ما أكبر الفكرة، ما أصغر الدولة»، صاغها محمود درويش في إحدى نثرياته الشعرية - السياسية، وتصدّرت كتاب «انتفاضة 1987-تَحَوّلُ شعْبِ» الصادر حديثاً عن «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» (تقديم وتحرير روجر هيكوك وعلاء جرادات). كأنما فلسطين تقبع بين حدّين: إما ثورة تتشعب عنها أفعال ثم ذكريات، وإما دولة لا تغادر طيف السراب. وبالتالي يتأرجح الشعب الفلسطيني بين حدّي الرحلة الضيقة، والفكرة الطموحة. أمر يجعله يبدو كسِلكِ واحد يشدّ مسار هذه القضية ثم يتركها على مسافة بين «الحدث والذاكرة». وهذا ما ينطبق على انتفاضة عام 1987 الفلسطينية على أرض فلسطين وبحجارتها وزنود فتيانها وكافة أعمار أبنائها. ثمة الكثير من وجع السؤال: من أنهى تلك الانتفاضة الخالدة وأخمد لهيب ثورانها، وبدّدَ احتمال تحقُّق برنامجها: أهي الرحلة الضيقة، أم وَهْم الدولة؟ وكيف لذاك الانشداد التطوعي الشعبي أن يقوى على الاعتقال على يد عسكر الاحتلال الإسرائيلي، وأن يتحمّل أساليب التعذيب الإجرامية التي مارسها ويمارسها أولئك العسكر، ثم ينفرط ـــ هذا الانشداد التطوعي ــــ ويُحبَط، ويخضع تالياً لتنسيق أمني مع عسكر عدوه الإسرائيلي، وتتحول بعض أيدي الحجارة إلى أيدٍ تتلوث يومياً ببرامج المنظمات غير الحكومية وأموالها؟

تصميم حسيب البيوم (حوالى عام 1987 ـــ من أرشيف ملصق فلسطين)

سنقرأ بعض تفسيرات ما نسأل في مقدمة هيكوك وجرادات وفيها «أنّ الآمال غير المحدودة التي ولّدتها الانتفاضة أفردت مكاناً لشعور عميق بالإحباط، وحتى بالخيانة (ممدوح العكر الطبيب والعضو في الوفد الفلسطيني إلى المفاوضات إلى ما قبل أوسلو)، على الرغم من أن الذكريات استمرت باعتبارها عملية استثنائية (علاء العزة أستاذ الإنثروبولوجيا في جامعة بيرزيت)، الأمر الذي يؤشر إلى تلبد الآفاق المستقبلية في أثر التحولات التي طرأت بعد خمسة أعوام من الحماسة الثورية (جورج جقمان عميد كلية الآداب السابق لجامعة بير زيت» (ص10).
تصف نادية أبو زاهر (دكتوراه في النظم السياسية) تأثير الانتفاضة الإيجابي في نوعية رأس المال الاجتماعي، «أي المعالم والروابط والشبكات أو الهياكل الاجتماعية التي يتفاعل فيها الناس من خلال ثلاث سمات تشخيصية»، وتركز على «اللجان الشعبية باعتبارها المثال الأكثر وضوحاً» في تنظيم الحياة اليومية من جهة، ومواجهة الاحتلال من جهة ثانية. كما استطاعت هذه اللجان «إشاعة الثقة العامة والتبادلية والتعاون بين أبناء المجتمع الفلسطيني من أجل مصلحة المجتمع العامة»، وشكلت «أكثر الأمثلة بروزاً لتضامن الشعب الفلسطيني وتكافله وتماسكه»، على «عكس التطوع في منظمات المجتمع المدني في الوقت الحاضر والذي يهدف إلى تحقيق مصلحة خاصة»، وخاصة «بعد اتفاق أوسلو»، حيث «كثير منها محكومة بالتمويل الأجنبي الذي تتلقاه وتعمل لمصلحة أجندته» (من ورقة ابو مزهر).
في الكتاب أوراق بحثية نتاج مؤتمر سنوي تعقده المؤسسة، فكان في عام 2017 في بيرزيت وبالتعاون مع جامعتها، ليكتمل في بيروت. أوراق غاصت بجرأة في تقليب الحدث المذكور على أيدي أكاديميين وقياديين مشاركين في تلك الانتفاضة، ومثقفين واكبوا وأبدعوا، فتناولت المحاور: الخلفيات، البنية، التصعيد، ردات الفعل، عوامل ثقافية، آثار الانتفاضة، رؤية استرجاعية، وخاتمة. واعتمدت الأوراق دراسة «فرادة الانتفاضة» من زوايا متعددة: «من التاريخ المفاهيمي، والإبستيمولوجي (نظرية المعرفة التي تشتمل على التسلسل الزمني ـ سرد أساسه الأحداث)، والمقارنات (يتم النظر إلى الانتفاضة كشبيهة لتجربة أخرى/ أو مختلفة عنها)، والأركيولوجيا (تجارب الماضي الكامنة في العمق التي يُعاد إحياؤها بعد انقطاع طويل)، وعلم الأنساب/ جينالوجيا (يكون مكان وزمان المشهد الخلفي اللاتاريخي هو العنصر التفسيري الرئيسي)، والذاكرة (التي تصنف الأحداث بأثر رجعي، وتشمل المجال المنفصل وهو النسيان)، إضافة إلى مداخلات رئيسية تركّز على الجانب الأخلاقي، وحتى في مجال علم المستقبل» (ص7).
من هذه الأوراق نلفت إلى ما عرضه الدكتور ماهر الشريف لـ «خلفيات الانتفاضة الشعبية الكبرى على صعيد الوعي والتعبئة والتنظيم وأشكال المقاومة» وإلى «الحشود في الانتفاضة» كما قرأها هيكوك كمفهوم نظري تاريخي، مع إشارته إلى دور «حركة الجهاد الإسلامي التي كانت مشاركة بشكل فعال جداً في مسلسل الأحداث التي تُوجت بالوصول إلى الكتلة الحاسمة في كانون الأول 1987» (ص51)، وإلى ندوة حول «القيادة الموحدة والتنظيمات الإسلامية ومنظمة التحرير في انتفاضة 1987» بمشاركة قيادات محلية للانتفاضة ممن عاصروها ونظموا لها وتركيزهم على عفويتها ولاعفويتها، وبروز قيادات شبابية جديدة، وإشكالية دور منظمة التحرير المزدوج، وقول أحد المشاركين في الندوة (رباح مهنا العضو القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) بأن «من اتّخذ قرار الذهاب إلى مدريد ليس القيادة الفلسطينية ولا اللجنة التنفيذية ولا «فتح» بل أبو عمار» (ص78)... مع إشارة إلى أن حركة «حماس» تأسّست في 14 كانون الأول (ديسمبر) 1987 من قبل حركة الإخوان المسلمين كجناح سياسي وعسكري لها من أجل المشاركة في الانتفاضة الأولى التي انطلقت يوم 9 كانون الأول (ديسمبر) (ص102).


وكتب غسان الخطيب الأستاذ في جامعة بيرزيت عن «علاقة الداخل بالخارج في سياق الانتفاضة الفلسطينية الكبرى»، متوقفاً عند مؤشرين: تأييد وحماسة المنظمة للانتفاضة، وملاقاة قيادة الداخل لهذا التأييد منعاً من استغلال إسرئيل والضرب على وتر استقلال الانتفاضة عن قيادة الخارج، ولكن في الوقت نفسه كانت هناك مبالغات في دور المنظمة بأنها تقود الانتفاضة، فيقول الخطيب: «... أما المثل الثاني للمبالغة في ذلك لأسباب رمزية، فهو إطلاق لقب «أول الرصاص وأول الحجارة» على الشهيد أبو جهاد، الذي كان أول الرصاص بمعنى أن حركة «فتح» هي التي أطلقت الكفاح المسلح، لكنه قطعاً لم يكن أول الحجارة، ذلك بأنّ أيّاً من الفصائل بما فيها «فتح» لا تستطيع أن تدعي أنها أطلقت الانتفاضة، وبالتأكيد ليس عبر نهر الأردن من الضفة الشرقية!» (ص85-86).
أوراق غاصت بجرأة في تقليب الحدث على أيدي أكاديميين وقياديين مشاركين في الانتفاضة

لكن مصادرة الانتفاضة لم تطل من قِبل المنظمة، وهو ما وثّقه الباحث يزيد صايغ حين أوضح أنّ «كمية كبيرة من الكاش تم صرفها في المناطق المحتلة بشكل عشوائي، ظاهرياً من أجل التجنيد وشراء الأسلحة، لكن في الحقيقة من أجل ضمان ولاء قواعد حركة «فتح»» (ص96)، ما جعل الخطيب يخلص إلى أن «قلق قيادة المنظمة الوجودي دفعها إلى التسرع في محاولة استثمار الانتفاضة سياسياً بطريقة ساهمت في إضعافها، وحّدت من قدرتها على الاستمرار، وبالتالي قدرتها على تحقيق أهدافها المتعلقة بإنهاء الاحتلال وتقرير المصير» (ص97).
لقد ابتكرت قيادة الانتفاضة أدوات بقائها سواء في التعليم وتدبر شؤون الناس، وأيضاً في تعزيز انطلاقة حركة مقاطعة إسرائيل «بي. دي. إس»، وهو ما يعرضه الباحث عمرو سعد الدين، أو في رصد التأسيس لاقتصاد فلسطيني تنموي (مقاطعة، إنتاج وطني، إضرابات عمالية، تنمية محلية)، لكنها اصطدمت بأوهام التنازلات السياسية من «فوق».
يتضمن الكتاب توثيقاً حيّاً لانتفاضة انطلقت وحقّقت وصارت اسماً علماً، وإن كان لنا ثمة ملاحظات منها تغييب انتصار المقاومة في لبنان عام 2000 (تعداد لثورات وانتفاضات في ص4)، وأيضاً ما ورد في المقدمة بأن الثورة الإسلامية الإيرانية استمرت سنة واحدة فقط ( 78-79)، مع العلم أن انتفاضات سبقت انتصارها وكانت بدأت منذ الستينيات من القرن الماضي، إضافة إلى تغييب دعم الشعب العربي وغيره لتلك الانتفاضة مادياً ومعنوياً.

* صحافية لبنانية

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا