شكّل العام الماضي ضربة قاصمة للقنوات المحلّية التلفزيونية، التي لم يهنأ بعضها ببرمجة الخريف التي أطلقها. إذ كان تعول على رزمة من البرامج والأعمال الدرامية، التي كانت تسعى لدخول المنافسة بها، مع تخصيص ميزانيات لافتة لها. لكن حسابات البيادر خالفت حسابات الحقول، فوقع المحظور. جرفت تظاهرات 17 تشرين كلّ هذه المشهدية، وأعادت فرز الشاشات، وأفرزت معها برامج تتناسب مع روحية «الثورة». بعد حوالى خمسة أشهر، خفّ وهج التظاهرات على الشاشة بعدما عاشت بعض القنوات الرئيسية إرباكاً واضحاً في التعاطي مع معطيات الميدان والسياسة. ثم جاء إرباك آخر تمثّل في العودة التدريجية إلى برمجتها المعتادة، لكن وباء كورونا أعاد تخريب المشهد، وضرب قطاعات إنتاجية واسعة، وأسهم في تراكم الأزمة المالية والاقتصادية التي لم تكن مستجدّة على قطاع الإعلام ومتفرعاته. أطلّ كورونا ليطيح بما تبقى من وسائل صمود اتكأت عليها الشاشات للبقاء. ومنذ فترة، دخلنا برمجةً خريفية أخرى بدت باهتة أصلاً، وخالية من أي روح منافسة أو أقله برمجة ترقى إلى ما كان منوياً تقديمه العام الماضي قبل وقوع هذه الضربات. مشهدية رست عليها حالياً القنوات التلفزيونية التي أعادت تموضعها، مع طرح برمجةً متواضعة، بدا التغيّر واضحاً عليها بشكل جذري حتى في «الفورما» الذي قامت عليه. هكذا، تداخلت الأزمات الصحية والاقتصادية بشكل تدريجي، وأثّرت بشكل مباشر في البرامج ومحتواها وشكل تقديمها أيضاً. الاستديوات الضخمة التي كانت تجول فيها الكاميرات الجوية والأرضية باتت أصغر بكثير، وحجّمت المساحة الشاسعة إلى زاوية صغيرة تكاد تتّسع لضيفين اثنين، تقليصاً للمدفوعات. أما البرامج التي كانت تعتمد على الجمهور إمّا للتصويت أو التصفيق والضحك والمشاركة، فقد استغنت عن تلك الخاصية، وخسرت بالتالي الكثير من رصيدها، لا سيما في البرامج الاجتماعية التفاعلية («أنا هيك» على «الجديد») والكوميدية («لهون وبس» على lbci). وفي العمق، بدا التخبّط واضحاً، على بعض هذه البرمجة، لا سيما ما يسمّى البرامج الاجتماعية الحوارية أو حتى السياسية التي تسيّدت الشاشات في الفترة الأخيرة، وكانت الركن الأساسي بعد تفجير المرفأ في آب (أغسطس) الماضي. مع بدء البرمجة الخريفية وعودة بعض البرامج المعتادة إلى الشاشة، لم تستطع المنصّات التقليدية ولا الإلكترونية التفاعلية، حسم الجدل التاريخي الدائر في ما بينها، فأخذت القنوات تتأرجح في اعتماد كلا العالمين، من دون أن تجد طريقاً يوائم بينهما. شكل شهر رمضان والاستراحة الصيفية فرصةً لتعزيز بعض القنوات مكانتها في العوالم التفاعلية، على رأسها انستغرام، فشاهدنا بعض التجارب في البرامج الحوارية السياسية والفنية. حتى إن برنامج «طوني خليفة» انتقل بدوره إلى تلك المنصة، من دون أن يوجد على الشاشة في الفترة الصيفية. بالتأكيد هذه التجربة لم تلقَ استحساناً كوننا نتكلم هنا، عن جمهور مختلف بين المنصّات التقليدية والرقمية، وعن طبيعة البرنامج الذي يعدّ ثقيلاً على المنصات التفاعلية. ومع اجتياح كورونا البلاد والعباد، أُدخلت التقنيات الرقمية بشكل كبير إلى القنوات التلفزيونية، في ظل عجز الضيوف عن الإتيان إلى الاستديو، فراجت موضة «الزووم» و«السكايب». حتى إن كثيراً من البرامج التي يعدّ فيها الفورما ثابتاً مع حضور الضيف الأوحد إلى الاستديو، لجأت بدورها إلى تلك التقنيات، وأجرت لقاءات بالجملة على مدى أكثر من ساعة تلفزيونية، مع هؤلاء الضيوف. أضف إلى ذلك التغيّر الحاصل في مضامين وشكل هذه البرامج. نتحدّث عن نسف واضح لفكرة «أنا هيك» التي عُرف بها نيشان ديرهاروتيونيان على «الجديد»، وطرحه نماذج عُدّت تابوهات في المجتمع اللبناني، شُغلت طرق معالجتها بكثير من الإثارة والسطحية، لصالح برنامج اجتماعي حواري، لا يجد سبيلاً للبقاء سوى باستضافة البصارين أمثال ليلى عبد اللطيف وميشال حايك، فبات شبيهاً بأي برنامج آخر على الشاشة عينها أو على قناة أخرى. حتى إن الأمر انسحب على بعض البرامج السياسية التي خرجت في الأصل، لتقدّم مادة سياسية أو اقتصادية جدية، وإذ بنا نرى ألبير كوستانيان (lbci) مثلاً يستعين بنجوم الكوميديا لاستضافتهم في برنامجه «عشرين 30»، في كسر واضح لسياق اتّسم بالجدية والنقاش وطرح القضايا الإشكالية في لبنان والعالم، بهدف ربما، تحطيم إيقاع رسا عليه البرنامج، ومحاولة نقله إلى كتف آخر علّه يجلب جمهوراً جديداً.
إثر هذه التغيرات الحاصلة في البرمجة التلفزيونية التقليدية، خرجت في المقابل موجة أخرى دارت رحاها في العالم الافتراضي، واستطاع بعضها فرض منبره، بفعل التمويل وذكاء التسويق، وبعضها الآخر خسر الرهان، كما حصل مع انطلاق «تلفزيون الثورة» الذي عُدّت له العدة والوجوه والأرقام. وإذ بنا، أمام تجربة هزيلة، تلقّت ضربات متتالية في الأداء وانسحاب أركان أساسية منه. في المشهد التفاعلي الافتراضي، لا يمكن إغفال منصّة «بيروت انترناشيونال»، أو Beirut City، التي يموّلها بهاء الحريري، وقد استطاعت غزو السوشال ميديا، وتثبيت حضورها بشكل أكبر في الفترة الأخيرة، لا لأهمية المضمون الذي تقدّمه، بل لاعتمادها لعبة الإبهار والتسويق وجذب المتابعين. إذ وصلت الصفحة وحدها على فايسبوك إلى أكثر من مليونَي متابع (لم يتم التأكد من غياب التزوير في الأرقام والحسابات الحقيقية)، بعدما كانت فقط تتكئ على نقل أحداث ميدانية أكانت على شاكلة تظاهرات أو غيرها. وإذ بنا، اليوم، أمام عدّة جديدة، قوامها برامج حوارية تنفّذ كما لو أنها على الشاشة (استديو وتصوير وإخراج وإضاءة..)، تعتمد على لغة الإثارة والمفاضلة وخلق الجدل، كما هي حال برنامج طوني خليفة «سؤال محرج»، الذي يستضيف شخصيات معروفة جدلية ويطرح عليها أسئلة محرجة، وبعضها يتّسم بالسطحية.
أسهمت المنصّات الإلكترونية الوليدة في ازدياد الشرخ في عالم التلفزيون

لكن في نهاية المطاف، فالبرنامج يلائم طبيعة الجمهور الرقمي، من حيث السرعة والضرب في عمق الإثارة والاختزال وتشويه المعاني، مع وضع (على سبيل المثال) صورتين واحدة تعود للأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله، وأخرى لبشير الجميل، وعلى الضيف أن يختار بينهما! ويبدو أن خليفة، لن يكون وحده في هذه الموجة التي بدأت تلقى رواجاً عالياً على صفحة «بيروت سيتي»، مع نية lbci، التعاون معها، وتقديم ماريو عبود برنامجاً يبث على منصتها!
في المحصلة، لم ترسُ المشهدية النهائية على صورة جامعة لكلا العالمين التقليدي والرقمي، إذ أسهمت المنصات الإلكترونية الوليدة في خلق مزيد من الشرخ في عالم التلفزيون، وأثبتت أنه بإمكان أيّ منصة فرض نفسها بالمال والترويج واستقطاب الوجوه المعروفة، وإيجاد لعبة الإبهار والجذب، في مقابل صورة هزيلة متخبّطة لصيقة بالعالم التقليدي، جرّاء إصابته بأزمات متلاحقة استطاعت كسر ظهره، و«ترقيع» ما تبقى من برامج كانت حاضرة بشكل أكبر وأقوى في المواسم السابقة، فرضي مقدموها بالقليل، مقابل ظهورهم الثابت على الشاشة، ولو كان الثمن هبوط أسهمهم مهنياً. في هذا الوقت، تتنامى حركة العالم الرقمي ويُعمل على تطوير صورته بشكل جاذب، فهل تتلقّف القنوات هذه المشهدية، وتعيد الإقلاع، مع إيجاد وسيط بين العالمين، وتخطّي أزماتها بالتالي، بخلاف ما قامت به «الجديد» أخيراً، إذ بدأت به من العالم التفاعلي وانتقلت به في ما بعد إلى الشاشة. نتكلّم هنا عن برنامج «مع تمام» (تمام بليق)، الذي لا تُلائم عناصره عالم النيو-ميديا، ويبقى محصوراً بجمهور تلفزيونيّ محدّد، بل إنه فقد الكثير من متابعيه بعدما استُنزفت هذه النوعية من البرنامج من الأساس.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا