في سياق عمله على توثيق وحفظ الذاكرة المكانية والاجتماعية لفلسطين، يُطلق «مركز دراسات أرض فلسطين» في «الجامعة الأميركية في بيروت» سلسلة من المحاضرات الافتراضيّة في الربيع المقبل. ستُفتتح اللقاءات مع الأكاديمي الفلسطيني سلمان أبو ستة، مؤسّس «هيئة أرض فلسطين» (جمعيّة أكاديمية في بريطانيا مختصّة بجمع المعلومات عن فلسطين، مقابل تغييبها عن الكثير من المراجع والمكتبات الغربيّة). لا تبتعد مهمّة الجمعيّة عمّا قام به أبو ستّة في مؤلفاته وعمله الأكاديمي، بتوثيقه التفصيلي للأرض الفلسطينية منذ ما قبل النكبة، وصولاً إلى التحوّلات التي شهدتها البلاد ضمن سياق الصراع الإسرائيلي، وقبله الانتداب البريطاني. المحاضرة التي تقام عند الخامسة من مساء الإثنين 16 تشرين الثاني (نوفمبر)، تحمل عنوان «استعادة فلسطين: 2000 عام من التخطيط (Mapping)». سيتضمّن اللقاء حصيلة تجربة أبو ستة في العمل على الخرائط الفلسطينية الأصليّة، وتجميعها، والتوثيق لأبعادها البشرية والطبيعية والتاريخية في كتب موسوعيّة مثل «أطلس طريق العودة» (2016)، و«أطلس فلسطين 1917 - 1966» (2010)، و«أطلس فلسطين 1971 - 1977» الذي صدر هذه السنة. في «أطلس طريق العودة»، رسم المؤرّخ الفلسطيني طريق عودته الخاصّة بكتابته سيرة ذاتية لفلسطين. سيرة تستحضر قراها وأماكنها وحياته في بلدة بير السبع طوال عشر سنوات قبيل النكبة، والهجرات التي تلت الشتات. أما «أطلس فلسطين 1917 - 1966» (2010)، فحوى خرائط لفلسطين، تحتفظ بكل تضاريسها قبل عام 1948، فضلاً عن المعلومات التاريخية والجغرافية والديموغرافية، والأحداث التي أدّت إلى تهجير الفلسطينيين. في أحدث مؤلّفاته «أطلس فلسطين 1971 - 1977»، استكمل أبو ستة النبش في الأرشيف الاستعماري، متصدياً من خلاله لسرديات وخرائط «صندوق استكشاف فلسطين» البريطاني الذي أجرى مسحاً شاملاً للأراضي الفلسطينية في سبعينيات القرن التاسع عشر. مقابل الأخطاء والمعلومات المغلوطة التي يكشفها المؤلّف في تلك الخرائط، يحفظ الكتاب أيضاً خرائط لفلسطين لم تُنشر من قبل، بالإضافة إلى بعض المعلومات عن أسماء القرى الأصلية، قبل الاحتلال الصهيوني.
بهذا الاشتغال التفصيلي على الخرائط وتجميعها وإعادة رسمها طوال عقود، يعيد أبو ستة إحياء ما غيّبته المكتبات العالمية والغربية عن فلسطين. لم تكن الخرائط البريطانية يوماً مجرّد تقنية علمية حديثة لتحديد تضاريس الأرض وهضباتها وتلالها ومساحاتها الخضراء. على الأراضي الفلسطينية تحديداً، شكّلت هذه الخطوط الصارمة في التخطيط (وفق تقنية الـ grid التي ولدت في عصر النهضة)، أداة استعماريّة سلطويّة استخدمت دقّة الحسابات الرياضية من أجل إسقاط الناس والعلاقات البشرية وتاريخهم عن الخريطة الفلسطينية. ورغم أن ذلك المسح البريطاني كان يُعتبر متطوّراً من الناحية التقنية، إلا أنه استُخدم في العمل الاستخباراتي للحكومة البريطانية وفي التخطيط العسكري لاجتياح فلسطين من قبل القوات البريطانية لفلسطين في الحرب العالمية الأولى، خصوصاً أن نطاقه ركّز على المنطقة الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، والتي تتطابق تقريباً مع حدود الانتداب البريطاني لفلسطين بعد حوالى خمسة عقود. حملت تلك الخرائط، ممارسات متعدّدة لما يعنيه الاستلاب من قصّ، وتحوير أسماء، وإسقاط معلومات ديموغرافية أساسية، خصوصاً تلك التي تتعلّق بالسكان العرب. نقصد تلك الخرائط التي استندت إلى مسح ديموغرافي وجغرافي وسياسي واقتصادي أجراه «صندوق استكشاف فلسطين» (PEF).
خلاصات ومعلومات اعتمدت عليها السياسات البريطانيّة منذ تأسيس الصندوق سنة 1965، ومهّدت بطريقة أو بأخرى للاحتلال الإسرائيلي. كما سعت بريطانيا إلى طرحها كخرائط حاسمة، نزولاً عند جملة رئيس لجنة مسح فلسطين خلال الثلاثينيات البريطاني جون فردريك سالمون: «يجب التعامل مع المساحة الطوبوغرافية المتقنة كإرث وطني من الطراز الأول». الصراع الذي يخوضه أبو ستة يتركّز حول تلك المساحات الطوبوغرافية وفوقها، فأمام الطمس الممنهج لملامح الجغرافيات الفلسطينية، كان عليه أن يسافر إلى المكتبات العالمية في فرنسا وتركيا ومصر وألمانيا وأميركا وبلدان أخرى للنبش في أرشيفها عن خرائط فلسطين تاريخياً. ولو أنه تجاوز تلك الخرائط البريطانية بقرون إلى الوراء، إذ عاد أبو ستة إلى السجلات التاريخية التي جمعت عن فلسطين وأسماء مواقعها خلال ألفي سنة، تحديداً إلى عصر الأسقف والمؤرّخ المسيحي يوسابيوس القيصري الذي جمع في عام 313 م قائمة بالمواقع الفلسطينية عندما قام برسم خريطة فلسطين. مواقع وقرى تاريخية ظلّت تحمل أسماءَها الأولى تلك الأسماء حتى سنة النكبة عام 1948، أي إلى حين قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي بمحوها وتهجير سكّانها.
علماً أن «مركز دراسات أرض فلسطين» في «الجامعة الأميركية في بيروت»، يضمّ الأرشيف الموسوعي لأبو ستة ولـ «هيئة أرض فلسطين». يسعى المركز إلى تحفيز الأبحاث العابرة للاختصاصات، والحوارات حول الأرض والسكان في فلسطين، ضمن عمله على توثيق تاريخ البلاد.

* محاضرة «استعادة فلسطين: 2000 عام من التخطيط (Mapping)» للباحث والأكاديمي الفلسطيني سلمان أبو ستة: 17:00 مساء الإثنين 16 تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي ـــ الرابط

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا