بعد عقود من الحكم الاستبدادي، أرغمت ثورة تموز 1908 بقيادة مجموعة من الضباط الأتراك في مدينة سالونيك السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909) على إعادة العمل بالدستور العثماني الذي أُقرّ سنة 1876 ومن ثم جرى تعليقه سنة 1878. كان الدستور العثماني ينصّ على وجود برلمان يُعرف بالمجلس العمومي يتألف من غرفتين: مجلس للأعيان يعينه السلطان ومجلس منتخب يُعرف بمجلس المبعوثين على أن يكون عدد أعضائه «باعتبار شخصاً واحداً من كل خمسين ألف نفس من ذكور التبعة العثمانية» (المادة 65 من الدستور).
انقر على الصورة لتكبيرها

ومع عودة الدستور، كان لا بدّ من إجراء انتخابات جديدة تم تحديد موعدها في تشرين الثاني وكانون الأول من سنة 1908، ما أدى إلى طرح قضية مشاركة سكان متصرفية جبل لبنان في هذه الانتخابات. فقد اعتبرت وزارة الداخلية العثمانية أنّ الاستقلال الذاتي الذي يتمتع به جبل لبنان، لا يعفيه من ضرورة مشاركته في الانتخابات كسائر المناطق العثمانية، لا سيما أنّ وجود ممثل عنه في البرلمان سيضمن مصالحه ويسمح له بالمشاركة في إقرار التشريعات التي لا تستثنيها امتيازات المتصرفية وسيتم تطبيقها بالتالي في أراضيه.
بعد موجة الحماس التي عمّت سكان المنطقة عقب الثورة والوعد بعهد جديد تسوده الحرية والمساواة بين العثمانيين ما خلق جواً مؤاتياً للمشاركة، تبلور موقف رافض لمبدأ تمثيل سكان جبل لبنان في البرلمان العثماني كونه يهدّد امتيازاته، ما دفع البطريك الماروني الياس الحويك إلى إرسال وفد من ثلاثة مطارنة إلى باريس للتدخل من أجل إعفاء جبل لبنان من المشاركة. وقد شدّدت السلطات الفرنسية للوفد على أنّ فرنسا مع بقاء الوضع على حاله كون مسألة مشاركة المتصرفية في الانتخابات العثمانية هي مسألة يعود البتّ بها إلى الدول الأوروبية الكبرى التي وقّعت على نظام جبل لبنان سنة 1861 والضامنة له. وقد عبّر بولس مسعد في كتاب نشر حينها أنّ «اشتراكنا في هذا المجلس يعدّ تسليماً معنوياً منا بكل ما يصدره هذا المجلس من القرارات ويضعه من اللوائح (...) يكون بمثابة حجة علينا لديها (لدى الدول الست الأوروبية) لتمتنع عن تعضيدنا وتأييد نظامنا يوماً ما إذا ما عمدت الدولة العثمانية إلى ضمنا إليها».
تُعتبر هذه الوثيقة شاهدة على مرحلة مهمّة من تبلور الوعي الوطني لدى سكان جبل لبنان


وهكذا تم تحضير مجموعة من العرائض الموقعة من قِبل مختلف القرى في جبل لبنان من أجل توجيهها إلى قناصل الدول الأوروبية الضامنة لنظام المتصرفية من أجل التعبير عن رفض المشاركة في الانتخابات. ومن بين هذه العرائض تلك الموجهة إلى قنصل «دولة روسيا الفخيمة» في شهر تشرين الأول سنة 1908 والتي تعلن رفض الموقعين التنازل «عن أقل بند أو حرف واحد من نظامنا، بل نمانع وندافع جهدنا لصيانته ونبذل لأجل المحافظة عليه مالنا ودمنا». والعريضة تحمل تواقيع وأختام أكثر من خمسين شخصاً ينتمون إلى عائلات مختلفة، لا سيما من آل حداد وشلالا والحصري وافرام والدحداح.
تُعتبر هذه الوثيقة شاهدة على مرحلة مهمّة من تبلور الوعي الوطني لدى سكان جبل لبنان، لا سيما الموارنة منهم، ورغبتهم في الحفاظ على هوية خاصة بهم ضمن نظام سياسي يضمن استقلاليتهم. أمر سيتكرّس لاحقاً مع انهيار السلطنة العثمانية وإعلان دولة لبنان الكبير في الأول من أيلول 1920.

* أستاذ جامعي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا