ارتفع أخيراً منسوب البرامج التي تقدّم نفسها على أساس أنها تلاحق الفساد وتكافحه. ظاهرة مرتبطة بعاملين أساسيين: الأول هو تفشي وباء الفساد في لبنان إلى الحدّ الذي يجعل مواده غزيرة واستقطابية، كونها تتصل بمصالح الناس، وتنطوي في عمقها على جوانب فضائحية تثير فضول المشاهد. أما العامل الثاني فيتعلّق بالمنافسة بين المحطات التلفزيونية. الأمر الذي ينعكس على الشاشات سباقاً برامجياً محموماً تستخدم فيه كل أنواع «المنشطات». يمكن القول في هذا الإطار بأنّ «حكي جالس» هو أحد «عدّائي» lbci في هذا السباق. بعد عرض تسع حلقات منه، يسجّل للبرنامج الذي يقدّمه جو معلوف أنه وضع بصمته الخاصة في مجال التصدّي للفساد، مستخدماً الأسلوب الاقتحامي الذي يحاول من خلاله تجاوز الخطوط الحمر، ولو كان الأمر يتعلّق بأحد أبناء رئيس الجمهورية ميشال سليمان الذي نال في إحدى الحلقات حصّته من النقد الحاد. قبل أن يولد حتى، بدا أنّ البرنامج حاول إعطاء انطباع أنه سيكون مختلفاً، كما ظهر من خلال الترويج الدعائي الذي مهّد له. إلى جانب المضمون الذي يحاول كل مرة إحداث صدمة لدى المشاهد، يسعى معلوف إلى أن يجعل من أسلوبه الخاص في التقديم رافعة للبرنامج، معتمداً في مقاربته للملفات النهج الصدامي الذي يصل في اندفاعته إلى نقطة اللاعودة.

وهذا ما يضع البرنامج أمام اختبار الرصانة لئلا تجرّه الحماسة الزائدة والمنافسة الشرسة أحياناً إلى قطع الخيط الرفيع الذي يفصل بين الجرأة والتشهير، على حساب سمعة البعض. يحرص معلوف على تقديم برنامجه وقوفاً لإيصال رسالة بأنه «يحكي جالس» من دون مسايرة أو مواربة، إلا أن إصراره على الوقوف ينطوي في الوقت ذاته على شعور ضمني لديه بأنه «الأستاذ» الذي يلقن الآخرين دروساً، مستمّداً من برنامجه سلطة الرقابة والمحاسبة. واذا كان الأسلوب متعالياً من وجهة نظر بعضهم، إلا أنه لا ينفي عنه سمة الجرأة والاقتحام في مواجهة «ديناصورات» الفساد، وشبكات المصالح العنكبوتية (ملف اللبنة مثلاً)، والتابوهات الدينية والاجتماعية (فضيحة «دار الأيتام الإسلامية» من خلال الكشف عن وقوع حوادث اغتصاب بحق بعض أبنائها!). لكن التحدّي الأكبر الذي يواجه «حكي جالس» وأمثاله هو اكتساب النفَس الطويل للحاق بالملفات حتى خط النهاية، لئلا تبقى مجرّد فضائح إعلامية وقنابل صوتية ترفع نسبة المشاهدة وتثير الضجة، ليس إلا. يطال التحدي أيضاً lbci لجهة قدرتها على تغطية وتحمّل تبعات ما يقدّمه معلوف، لا سيما أنه سبق لقناة mtv أن ضاقت ذرعاً به، وتخلّت عنه لدى تعرضه لإحدى الشخصيات العامة بغض النظر عن المحتوى والمقاربة والأسلوب التي كان الإعلامي اللبناني يعتمدها في شاشة المرّ.
لكن بعد أسابيع على انطلاقة البرنامج، ألا يمارس معلوف نقداً ذاتياً؟ يجيبنا «بلى، في الحلقات الأولى لم أكن مرتاحاً مع نفسي. انتقالي من mtv إلى lbci أشعرني في البداية بأنني كمن يبدّل منزله وغرفة نومه. ولجهة المضمون، وجدت بعد عرض الحلقة الخامسة أنّ السقف ما زال متدنياً، والأمور يجب أن تسمى بأسمائها بمزيد من التجرّد والوضوح. من يقدّم هذا النوع من البرامج، عليه ألا يتردّد في الكشف عن الفساد، ولو كانت عائلته هي المدانة. ومن جهة الأسلوب، عمدت إلى التخفيف من المنحى الذي يبدو واعظاً». ويضيف «لذا اعتمدت أخيراً الأسلوب الأقل انفعالاً في تناول قضية خطيرة، كقضية «دار الأيتام الإسلامية»، لأننا وبمجرد إثارة الموضوع سنصل إلى النتيجة ذاتها، وهي أن تقوم المؤسسة بتصحيح مسارها. فليس همنا القضاء على هذه الدار العريقة. يجب أن نعد للعشرة قبل أن نتسبّب في تدمير مؤسسات».
اعتمد أخيراً أسلوباً أقل انفعالاً في تناول القضايا ونفى تعرّضه لضغوط سياسية


وعندما يقال له بأنه تسبّب في إيذاء شركتي لبنة في لبنان لصالح شركات «زميلة» لهما، يرد «من الطبيعي أن يتضرّر المخالف للشروط الصحية، وأن يستفيد الملتزم بها. لذا عمدت الفئة الثانية إلى تسويق إنتاجها عبر الملصقات الإعلانية والصحف احتفاء بنجاحها، فهل نمنعها؟». ويشير الى أنه لم يتعرّض بعد لضغوط سياسية، لافتاً إلى أن «الضغوط الفعلية لا يمكن أن تأتي إلا من المحطة التي أعمل فيها. والحمد لله المحطة معي وتدعمني دائماً».
وعما إذا كان يتعمّد رفع السقف أحياناً لمنافسة البرامج التي تعرض في التوقيت ذاته الذي يعرض فيه «حكي جالس»، وتحديداً «هيدا حكي» (يقدّمه عادل كرم) على شاشة mtv، يجيب «أنا لا أقارن بين البرنامجين، لأن لكل منهما طبيعة مختلفة. ومن الطبيعي أن يحصد «هيدا حكي» نسبة مشاهدة أعلى لأنه برنامج ترفيهي خفيف، والناس يميلون أكثر إلى هذا النوع من البرامج. لكنّ «حكي جالس» في حلقاته الثلاث الأخيرة حصد أرقاماً خيالية في نسب المشاهدة». لكن يبقى السؤال: هل يملك هذا النوع من البرامج القدرة على إحداث تغيير حقيقي والحد من الفساد، في وقت تعجز الدولة عن مواجهته؟



«حكي جالس» كل ثلاثاء 21:40 على lbci