I ـــ العمارات البرجية وبوَّابات الصدمة
1- في البدء كان مبنى مؤسسة كهرباء لبنان. وقد رسمه المعمار المصري اللبناني بيار نعمة. عاد بيار نعمة من باريس إلى لبنان، حاملاً درجة معمار، دبلوم دولة، من المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة. كانت «مدرسة البوزار»، مصدّرة المعماريين إلى مختلف بلدان العالم. وكان قد رافقه؟ أو سبقه؟ معمار آخر، هو بيار خوري. ولحقهم مصريُّ آخر، هو وليم صيدناوي. كلُّهم تلامذة الحداثة الصارمة، ورائدها لوكوربوزييه، مع وحدة السكن التي بناها في مرسيليا في عام 1952. وقد تعب الناس من ضخامتها، ومن صعوبة العيش فيها، فهدمت منذ سنوات. وكان قد سبقهم إلى بيروت، المعمار والمعلم موريس ميجون (Maurice Migeon)، الفائز بمباراة مدينة كميل شمعون الرياضية. لقد تعلَّمت في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة Alba، مع موريس ميجون (Migeon) ووليم صيدناوي.

2- رسم بيار نعمة مبنى مؤسسة كهرباء لبنان بهذا النمط اللوكوربوزي من العمارة الحديثة. رسمه عملاقاً، وحيداً في محيطه المبنيّ، متعالياً عليه. يرى في هذا التعالي، المكوّن الفاعل لجماله. والعنصر الحاسم في حسن أدائه. نستغرب، حين يعمل الناس في هذا المبنى الإنساني، كيف يتواصلون؟ كيف يصل موظَّف من مكتب في الطابق الأول، إلى مكاتب المدير العام في الطابق الثالث عشر؟ كيف يجتازون الممرات المتمادية في طولها.
بالتأكيد، استلهم بيار نعمة، الشوارع الداخلية، لمبنى لوكوربوزييه السكني في مرسيليا. ونستبق توصيفنا لعصف النكبة، فنذكّر، أن المدير العام للمؤسسة، قد حاصره الانفجار النكبة، في الطابق الثالث عشر. ولم يتمكّن المسعفون من الوصول إليه لإنقاذه. فكل الداخل محطَّمٌ. والأدراج مسدودةٌ بأحشاء المبنى المقتلعة. وصلوا إليه بطرقٍ استثنائية، وأنقذوه.
3- بالأمس، أي بعد صدور قانون البناء الجديد في عام 2007، والذي اشترط، لبناء عمارة برجية، أن تكون مساحة العقار، أربعة أضعاف الحد الأدنى للإفراز أي 1000 م2، بحدّ أدنى للإفراز هو، وفق المنطقة الارتفاقية، 250 م2.
- بالأمس، تسابق المضاربون، وأقاموا، في المكان قبالة مبنى مؤسسة كهرباء لبنان، ثلاث ناطحات للسحاب، مكسوّة بالألومنيوم الأسود والأحمر، «الدارج» على ما يبدو.
4- ملأ الأمكنة هناك، قبل الانفجار النكبة، مجمَّع مبنيٌّ مكوَّن من أربع عمارات برجيَّة. متباعدة، الانفراجات بينها، بوَّابات عريضة عامودية، مفتوحة على المرفأ قبالتها. إنها تجذب، بشكلها وبارتفاعها، موجات العصف إلى داخل مار مخايل – درب النهر، وقد عُمّد بكامله، «شارع أرمينيا».
5- هي بوَّابات تصدم بشكلها، وبتموضعها، وبدورها. فهي بالتالي بوَّابات الصدمة. والزيارات الميدانية إلى الأمكنة، بعد الانفجار النكبة، تؤكد أن عددها ثلاث:
ــ البوابة الأولى، في شارع الشفقة. الذي يحاذي مبنى مؤسسة كهرباء لبنان، غرباً.
ــ والبوابة الثانية، هي، في الفسحة الواسعة شرقاً، بين مبنى كهرباء لبنان، والمبنى الخرساني الأحمر والأبيض، المجاور لأحد الأبراج.
ــ أما البوابة الثالثة، فهي الانفراج الفسيح المبالغ بارتفاعه، بين اثنتين من العمارات البرجية الثلاث. واحدة في الواجهة الشمالية لمار مخايل درب النهر، وفيها «غاليري تانيت». والثانية متراجعة قليلاً إلى الشرق.

II ـــ مار مخايل – درب النهر، وعصف النكبة.
1- في مبنى مؤسسة كهرباء لبنان، بداية. تحوط المبنى، الجادات والطرقات. جادة شارل حلو شمالاً بمحاذاة المرفأ. شارع مار مخايل – درب النهر جنوباً، شارع الشفقة غرباً، وشارع نقولا الترك شرقاً.
ــ في الزيارات الميدانية الأولى للأمكنة، بعد أيام قليلة على الانفجار النكبة، توقفنا طويلاً عند مبنى مؤسَّسة كهرباء لبنان. هيكل من الخرسانة المسلَّحة، مبالغ بعرضه، وبارتفاعه، صمد أمام العصف الآتي من الانفجار القريب. تصدَّى بنجاح للزلزال. امتصَّ بعض موجاته. حمى جزئياً النسيج المبنيَّ جنوبه. صمود دفع ثمنه غالياً. إذ دمَّر العصف كل مكوّنات المبنى، في الزخرفِ، والوظيفة، والأداء. تحطَّمت الواجهة الشمالية كلياً. لا نوافذ ولا زجاج. لا زخرف ولا أجهزة للتكييف. اقتُلِعَتْ كلُّها. وتدلَّت من النوافذ المنتظمة، أحشاء المبنى. القواطع الخفيفة، والأسقف المعلَّقة، وأجهزة الإنارة، والأبواب... كل ما كان يصنع الحياة في المبنى. كان العمال يرمون من النوافذ، الأحشاء المحطَّمة، لتسقط عند أقدام المبنى. وتتجمَّع أكواماً حوله. اخترق العصفُ المبنى، وحطَّم واجهته الجنوبية الخلفية، الموازية لشارع مار مخايل – درب النهر. صمد الجداران الأصمَّان من الخرسانة المسلحَّة، وهما حدود المبنى، في غربه وفي شرقه.

الأبراج مخلّعة والدارج فيها الأحمر والأسود

ــ نتوقف في الزيارات الميدانية الأخيرة، عند المبنى مجدداً. هيكل من الخرسانة الرمادية، ضخمٌ ميت. انتزع العصفُ منه مكوّنات حياته، فبدا عتيقاً، مخيفاً. تحوطه، في جوانبه الأربعة، وهي خفيضة المناسيب، أحشاؤه المقتلعة، أكوام! أكوامٌ متتابعةٌ، من المكونات المقتلعة، تزنّره، ويبلغ ارتفاع بعضها عدة أمتار.
بدا المبنى، عبر كلّ هذه المشاهد، وكأنه مهجورٌ منذ سنوات. بدا، وكأنه نموذجٌ لهيكل إنشائيّ لم يُكمل أصحابُه بناءه. أو أنهم تخلُّوا عنه لخوفهم من ضخامته. هربوا، لتستقرّ إدارة مؤسسة كهرباء لبنان راهناً، في بعض مكاتب فروعها، وفي تجهيزات من الحديد، في كل منها، يعمل ثلاثة تقنيين أو إداريين.
مات مبنى مؤسسة كهرباء لبنان. ولا نستطيع دفنه. ولا قيامة بدون دفن. لذا، لن تعود إليه الحياة قريباً.
2- في مجمَّع العمارات البرجية ثانياً، عمارة القرن الواحد والعشرين. نقف في الطابق الأرضي من العمارة البرجية، حيث كُتب على الجدار «غاليري تانيت». ننظر إلى الجسم المبنيّ الأحمر الناتئ أمامنا، فلا نفهم معناه. هل هو جهد تأليفيّ جماليّ؟ أم أنّه أداءٌ وظيفيٌّ؟ لا نجد في الكتلة أمامنا جواباً. فنكتفي بالتأكيد، أنّ قسماً من الجسم الأحمر الناتئ، قد حطمه العصف.
ننتقل إلى الرصيف المقابل. ننظر من بعيد إلى ما تبقى من المبنيين العملاقين، فنراها مجوَّفة فارغة. الهيكل، وبقايا الألومنيوم الملوَّن الملصوق. الأحمر والأسود دائماً. نقترب. نحن في البوابة الصدمة، بين هيكل مبنى مؤسسة كهرباء لبنان، والمبنى الأحمر والأبيض. لا يتغير المشهد باقترابنا منه. هيكل خرساني. فراغ مفزع في كل الطوابق. وحده، المتبقّي من الألومنيوم الملون الملصوق، يدلُّ على الشكل الذي كانت عليه العمارات الثلاث. نتساءَل، هل كانت فارغة؟ أثناء العصف؟ كيف غادرها سكَّانها أو العاملون فيها؟ يدفعنا المشهد الموحش، إلى التساؤل بإصرارٍ، عن الناس الذين كانوا يشغلون العمارات الثلاث. متذكّرين أن المدير العام لمؤسسة كهرباء لبنان، أنقذ بأعجوبة. وأن العصف ترك قتلى بين العاملين في المؤسسة (ثلاثة قيل). وماذا عن الناس هنا؟ كيف أنقذوا؟
3- في بوابات الصدمة، وفي عصف النكبة، في شارع مار مخايل – درب النهر. كل هذه التساؤلات تساورنا، ونحن نقف وسط المجال الفارغ العملاق، الذي عرَّفناه بالبوابة – الصدمة الثانية، وقد جذبت أمواج العصف، إلى مار مخايل – درب النهر. فلنتوقف عند بوَّابات الصدمة، وعبرها، عند شارع مار مخايل – درب النهر.
4- عصف النكبة في شارع الشفقة. نقف في شارع مار مخايل – درب النهر، قبالة شارع الشفقة، المنحدِرِ نحو جادة شارل حلو، والمرفأ. أمامنا، نسيج مبنيّ يتمدَّدُ، آتياً من شارع باستور في منطقة الرميل. نماذج من عمارة الحداثة الأولى، وما بعدها. متوسّط ارتفاعها طابق أرضي، وستة طوابق علوية. تلتف العمارة هذه، وتصنعُ الواجهة الغربية لشارع الشفقة. نسير حتى جادة شارل حلو. في محور مشهد المرفأ المدمَّر أمامنا، بقايا إهراءات الحبوب. نحن في محور البوابة الصدمة الأولى.
في الزاوية، الغربية، في ذاكرتنا، محطَّة للمحروقات كبيرة. دُمِّرت المحطَّة بالكامل. مبنى الخدمات فيها، انهار سقفه الخرساني فوق كل ما فيه. المضخَّات اقتُلِعَتْ. كل ما كان مبنياً حُطّم. لا شيء في الفراغ سوى الأوساخ، وخزانات المياه المحطّمة. الزلزال هزم كلَّ مظهر للحياة.
في الزاوية الشرقية، مبنى ملحق، بالمبنى الرئيس لمؤسسة كهرباء لبنان. هيكل من الخرسانة المسلحة، مطلي بالأسفلت الأسود. نزعَتْ الكسوة البيضاء. اقتُلِعَتْ الواجهات الزجاجية. وتراكمت التجهيزات حطاماً في أماكنها.
في واجهة شارع الشفقة، الغربية، الطابق الأرضي التجاري محطَّم. الأضرار كبيرة، وكل الأبواب مقفلة. دكاكين، محترفات، مطاعم. كلها مقفلة بالخشب المثبت من الخارج. يشي المشهد، بأن لا عودة قريبة.
الطوابق العليا، التي صمدت بهيكلها وجدرانها، فقدت كلّ واجهاتها الزجاجية. أشلاء ملأت جوانب الشارع، وكل الطرقات الفرعية. أما في الأعلى، فالطوابق الأربعة أو الخمسة، فقد تحولت إلى كتل صمّاء، فيها فتحات تبدو كأفواه فاغرة. لا شيء خلفها إلّا السواد. ولا شيء يُسْكِتُ الموت الذي تحكيه. يصرُّ مشهد الشارع على الصراخ، إن الموت كان هنا. ولا حياة اليوم في الأمكنة. ولا شيء فيها يشي بموعدٍ لعودة الحياة. العودة صعبة. وكلفتها باهظة.
5- شارع مار مخايل – درب النهر مجدّداً. عصف النكبة. الدمار والنزوح: نصعد شارع الشفقة المنحدرِ. نعود إلى شارع مار مخايل – درب النهر. نقف في منتصف البوابة الأولى. قبالة جزء الواجهة الجنوبية، التي ضربها العصف. أمامنا مبانٍ، هيكلها خرساني صلب، وجدرانها صلبةٌ أيضاً، صمدت وبقيت، كتلاً صمَّاء، موحشة.
المباني التي طالها العصف ثلاثة. اثنان منها حديثان. والثالث مهجَّن، لا هوية له. تختلف المباني هذه بارتفاعها، عن المجموعة، التي تليها، وخاصة عن المجموعة التي قبلها. فالمباني هنا، هي من طابق أرضي، فوقه ثلاثة طوابق. وآخر من طابق أرضي فوقه طوابق أربعة. وثالث مهجَّن، من طابق أرضي فوقه طوابق خمسة. تنتهي المجموعة، بمبنى تراثيّ مهجَّن من طابق أرضي، فوقه ثلاثة طوابق.
المشهدُ سوريالي. المباني الأربعة مصابة بقوة. كلَّها مهجورة. لا يشي أيُّ منها ببقية حياة. صفراء كلّها، بصفارٍ متدرج. ما كان باباً أو نافذة، أصبح فتحة سوداء في كتلة صفراء. تتكرر الفتحات السوداء. أمام بعضها، شرفات ناتئة صمدت. في تتابعها العامودي، الفتحات مكرّرة. أما في تتابعها الأفقي، فهي بقياسات شديدة الاختلاف. التراثي المهجن، فيه طابقان محورهما الأقواس الثلاثة، وطوابق مضافة بدون هوية. أرى في المشهد العام هنا، لوحة تجريدية، صفراء، متموّجة، تعزف فيها الأفواه السوداء الفاحمة، لحناً جنائزياً، كتبهُ عصف النكبة.
6ـ عصف النكبة، في الجزء التراثي المتسلّل، إلى واجهة الشارع الجنوبية، من الجميزة، شارع غورو.

تراث مهجن فتحاته المحطّمة أفواه فارغة

يختلف عصف النكبة، في بداية الواجهة الجنوبية للشارع موضوعنا، عنه في الجزء الذي يليه. فعند الالتفافة، حيث الواجهة نصف الدائرية، دمَّر العصف مبنى تراثياً، فكُشِفَتْ القاعدة التي كان يقوم عليها المبنى. كتلة من طابق واحد، من الحجر الرملي التراثي. في الكتلة القاعدة، قوسان. خلفهما عقدان سريريان. تلي هذا المبنى التراثي المدمَّر ضُمَّةٌ من عدة مبانٍ تراثية، ضربها العصفُ كلَّها. المشهد المبنيّ هنا بعد العصف، يختلف كلياً عن المشهد المبني الذي يليه. هنا، أقواس ثلاثة، أضيف إليها جسم غريب مغرّبٌ، ضرب العصفُ الأقواسَ والجسم الغريب. وسادت العتمة. وعمَّ النزوح. وهناك، كتلة مرتفعةٌ ضُرِبَتْ. كلُّها من الحجر الرملي الظاهر. وهنالك، أقواس، وشرفات رخامية ناتئة. كسر العصفُ الشرفات. وجرَّد الأقواس من زجاجها. تليها أقواس ثلاثة أخرى، في طابق أولٍ مهجور. فوق طابق أرضيّ. سارع التجَّار إلى ترميمه، وسط دمار يحوطه. مبادرةٌ مماثلة لفرعِ مصرفٍ رُمّم بسرعة، في طابق أرضيّ، فوقه طوابق ثلاثة مهجورة. فيها محاولات ترميم خجولة. المشهد، في بداية الواجهة الجنوبية لشارع مار مخايل – درب النهر، لا علاقة لها بالتجريد. أو بلحن الحزن الذي سمعناه.
هنا تدمير واضحٌ. هنا وحشة مسيطرة. هنا، لا ترميم في الطوابق العلوية، إلى الآن. لا بل يبدو الترميم صعباً تقنياً، ومكلفاً. لا مكان للتفاؤل هنا. والمكان يرفض العزف. بعض التفاؤل الموضعي مقبول.
7- عصف النكبة في الطابق الأرضي في واجهتَي الشارع. تدمير معظم الاستثمارات التجارية. بعض الترميم الفوري، لمؤسسات تجارية استثمارية مختلفة. أكثرها، المطاعم والمقاهي.
منسوب موقع الانفجار النكبة منخفض. ومنسوب شارع مار مخايل – درب النهر، مرتفع في نصفه الأول، حتى الحدود الغربية لمحطة سكة الحديد. ثم يبدأ الشارع بالانحدار نحو النهر والجسر.
جذبت البوابات الرئيسة الثلاث، موجات العصف إلى داخل الشارع. وساعد في هذا الجذب البوابات الفرعية الأخرى، مثل شارع ابن الربيع، وربما شارع مدريد أيضاً. والشارعان يخترقان منطقة مار مخايل، باتّجاه شارع مار مخايل – درب النهر.
دمَّر عصف النكبة، معظم المنشآت التجارية، في الطابق الأرضي من واجهتَي الشارع، الجنوبية والشمالية. والزيارات الميدانية الأولى، أظهرت، حجم هذا الدمار الكارثي. معظم المطاعم مقفلة بالخشب أو بالستائر. ومعظم المحال التجارية مقفلة، بالحجارة الإسمنتية أو بالخشب. ما يدل على عودةٍ بعيدة في الزمن.
لقد ساهمت خيم المساعدات الفورية، التي أقيمت بامتداد الشارع في حثّ المستثمرين على ترميم سريع لمؤسساتهم. فرُمّمت محالٌ كثيرة. كما رُمّم بشكل فوري تقريباً، بعض المقاهي والمطاعم. إلاَّ أن تكرار الزيارات الميدانية، المتأنية والتفصيلية، أظهر بوضوح، أن معظم المؤسسات التجارية لا تزال مقفلة. وأن الترميم، والعودة إلى العمل، كان منذ البداية محدوداً، واستمرَّ محدود التأثير.
8- عصف النكبة يتمدَّد. البوَّابة الصادمة الثانية، كنا قد حدَّدناها بمحاذاة الطريق الذي يحدُّ مؤسَّسة كهرباء لبنان شرقاً. بعد الطريق المبنيّ المألوف في شوارعنا، والذي أراده مارون الدكاش، علامة في المكان، بواجهاته، وبلونيه الأحمر والأبيض.
البوابة الصادمة هناك، واسعة، مرتفعة، جذبت العصف بقوة. فضرب مجموعة المباني قبالتها. مبان كولونيالية، وأخرى تراثية. تصنع جزءاً جميلاً من جدار الشارع. بارتفاعها الموحَّد، طابق أرضيٌّ، فوقه طابقان علويان. وبألوانها الهادئة المتجانسة. تدرُّجٌ باللون الأصفر، وآخر يقترب من اللون الأبيض المكسور. المجموعة هي الجزء الأجمل، والأكثر تجانساً وتناغماً، في واجهة الشارع الجنوبية. والمعبّر الأفضل، عن تراكمٍ هادئ للعمارة في الزمن. ضربها العصف. نزع كل الأبواب والنوافذ. صمدت الشرفات. وصمد الهيكل. وبقيت في المكان جميلة، مهجورة، تنتظر الترميم والعودة.
الزيارات الميدانية الأخيرة، أظهرت اهتماماً جادّاً بالترميم. وكان اللافت، اهتمام وزارة الثقافة، عبر المديرية العامة للآثار، برعاية مُثابِرةٍ، لترميم مبنى تراثيّ مميَّز.
نقف على الرصيف مجدَّداً، قبالتنا مجموعة المباني البرجية، بهيكلها الإنشائي الصامد، والمتبقي من زينتها الملصوقة، سوداء أو حمراء، أو اللونين معاً. إنها جثث ممزَّقة، كانت عمارات. المبنى الذي احتضن «غاليري تانيت» يبتعد نسبياً عن المبنيين الآخرين. طريقٌ بمحاذاة المبنيين، يوصل شارع مار مخايل – درب النهر، بجادة شارل حلو. مثل سابقاتها، الفتحة واسعة، فسيحة، مرتفعة.
إنها البوابة الصادمة الثالثة.
أصاب العصف المباني قبالتها بعنف. طرد ساكنيها. يسرنا في زيارة ميدانية لاحقة، رؤية البدايات في عملية ترميم طويلة، ومعقدة.
نسترجع مسارنا في الشارع نحو الشرق، قبالة واجهته الجنوبية. تكثر الفجوات في هذه الواجهة، وتكثر فيها الأدراج موصلة إلى المرتفعات جنوباً، وهي على مناسيب مختلفة. في معظم هذه المرتفعات عمارات برجية تنطح السماء. وتكثر قبالتها، شقيقاتها في طرقات وزواريب الواجهة الشمالية. فالمشهد الخلفي لدارة كولونيالية جميلة، في محورها فرندا تحملها أعمدة أربعة مزينة، برج من ثلاثين طابقاً. تبدو الدارة الجميلة وهي من طابقين، وكأنها المدخل المزخرف للبرج خلفها.
نتابع مسارنا في الشارع، نحو النهر والجسر. الهوية في المباني، تحفظها مجموعات مبعثرة، في مسارنا. إذ تكثر في الشارع، كلّما تقدمنا شرقاً، العمارة الحديثة، المتراكمة في الزمن، خلال عدة عقود. متوسطة الارتفاع، أو تنطح الخمسين متراً. بشرفات عريضة، أو ملساء مكسوة بالحجر المجليّ، وبفتحات صغيرة. كما هي في برج، أمامه واجهة مجدَّدة. عمارة كولونيالية قناعٌ، من طابق أرضي وطابقين. إنها الفوضى العارمة، والضياع الموجع للهوية.
تبدو الفوضى واضحة، والهوية مبعثرة، في شرق الشارع الذي لم يصل إليه العصف، في واجهته الجنوبية. نتقدم شرقاً، فتصدمنا محطة للمحروقات، مدمَّرة في الواجهة الشمالية. يتكرر هنا، في وسط الشارع، مشهد محطة المحروقات المدمَّرة التي تصدَّرت المشهد قبالة بقايا الإهراءّات، في زاوية شارع الشفقة.
المحطة هنا كانت مغَّطاة، فاقتلع العصف الغطاء المعدني. وانهار سقف المباني الخدماتية فوق السيارات التي لا تزال تحته. المضخّات مرمية في الزوايا، والأوساخ تتصدر المشهد.
اللافت في هذه الأمكنة المدمَّرة، ضُمَّة المباني الجميلة قبالة المحطة المنكوبة. نعثر معها على الهوية مجدَّداً. ستة مبانٍ تراثية، من طابق أرضي يعلوه طابقان. ارتفاع واحد، ألوان متناغمة. تأليف محوري، بأقواسه الثلاثة، والنافذة على جانبَي المحور. ضرب العصف المجموعة. عرَّاها. اقتلع كل ما كان في واجهاتها. دمَّر أحد المباني في وسط التأليف العام. حطَّم كل مكونات الطابق الأرضي. فنزح الساكنون، والتجار.
في مسارنا، محطة بيروت للسكة الحديد. أصابها العصف. فحطَّم كلّ المستودعات المبنية في داخلها. وقذف بالأشلاء إلى الأسفل، إلى جانب سيارات النقل المشترك العتيقة، وسيارات الصليب الأحمر المهترئة.
نقف أمام الدرج المعلم، الموصل إلى شارع الخازنين، فلا نرى دماراً على جانبي الدرج. ننظرُ إلى الطريق، فنلاحظ انحداره نحو شارع خليل البدوي، وجادة بيار الجميل. تزداد الفوضى في العمارة، كما تحتلُّ الانتقائية المدَّعية، مورفولوجية الشارع في واجهتيه.
ولكن. ولكن. لا عصف هنا ولا دمار. لا نزوح، ولا وحشة.

III ـــ الخلاصة
العصف والخاصيات الاقتصادية- الاجتماعية، في شارع مار مخايل – درب النهر (شارع أرمينيا).
ــ زيارات ميدانية متكرّرة، قمنا بها للشارع، في الأيام الأولى بعد عصف النكبة. اختلف المشهد في الشارع، عنه في الجميزة، منذ البداية. لم يكن مقفراً، موحشاً. أقامت، على الأرصفة، مجموعات عربية ولبنانية، خيماً للمساعدة. سندويش هنا، مياه هناك، إحصاءٌ، وتسجيل أسماء المحتاجين هنالك. اختلطَ الجميع. الفضوليون، وفرقُ المساعدة الفوريَّة، والمرمّمون. خيمة لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. تجاورها خيمة احتضنت كنيسة، كانت تقام فيها صلواتٌ دورية.
أصاب عصف النكبة المباني التراثية في القسـم الأول مـن الشارع. لم يهدم العصف المباني. لم يهدم المشهد المديني. هُدِمَ مبنى تراثيّ هنا وهناك. لكن المشهد المدينيَّ، بقي جذاباً، في معظم الجزءِ المُصاب.
وبدأت، منذ الأيام الأولى، محاولات خجولة، لترميمٍ سريعٍ لمطعمٍ أو لمقهى أو لدكان. رحل السكان من الطوابق العليا، لكنَّ معظم الجوار بقي آهلاً، مسكوناً كالمعتاد. فشوارع منطقة مار مخايل، لم تصب. ونسيجها الاجتماعي حافظ على حياته العادية. إنها أحياء سكنية ملأى بناسها. ولكن حياتها الاقتصادية، وكلُّ حاجاتها في الأكل، والملبس والترفيه، تقطن شارع مار مخايل - درب النهر. الترميم الفوري ضروري، تلبيةً لحاجاتِ ناسِ الأمكنة، الذين لم تُصبْ منازلهم ولم يغادروا. نذكّر، أنَّ البطريرك الراعي، أقام قداساً في كنيسة مار مخايل، على شارع فرعون.. ونقلت الشاشات وقائع القدَّاس. فبانت الكنيسة وهي تعج بالمصلين.
مبنى مؤسسة كهرباء لبنان رسمه المعمار المصري اللبناني بيار نعمة متأثراً بلوكوربوزييه


قبالة محطة بيروت لسكَّة الحديد، الدرج الفسيح المعلم، يشدُّ سكَّان شارع الخازنين وجواره، إلى الأسفل، إلى الشارع التاريخي – الرئيس في المنطقة. فهم في الشارع، زائرون، ومتسوّقون، ومقيمو حفلات في المطاعم، وساهرون في الملاهي، ومشتاقون إلى جيرانهم الساكنين في الجزء الأسفل من الأمكنة، منطقة مار مخايل.
والخاصية الأهم، هي وليدة جغرافية الشارع، ولصيقة امتداده حتى جادة بيار الجميل وبعدها، حتى طرابلس. فالجزء قبالة البوابات الثلاث أفقي. أما الجزء الثاني، قبل الدرج وبعده، فهو منحدر، وتكثر المحلات والدكاكين على جانبيه. كما تكثر فيه الشوارع المتفرعة، جنوباً خاصة. أذكر على سبيل المثال، من الشوارع المتفرّعة جنوباً، شارع زنوبيا، وشارع الخنشارة، وشارع شادوريان، ثم شارع داود بركات.
تربط هذه الشوارع، شارع مار مخايل – درب النهر، أو شارع أرمينيا، وهو الشارع الرئيس، بشارع داخلي مواز، هو شارع البطريرك عريضة. وكل المنطقة خلفه، حتى حدودها عند شارع القبيات. وإذا تبعنا انحدار الشارع، فسنصل إلى المنطقة المزدهرة، وفيها شارعا أراكس وخليل البدوي، وكل المتفرعات المنحدرة، باتجاه جادة بيار الجميل جادة النهر.
لم يطُل العصف كل هذه المنطقة. وإذا نزح السكّان، من المنطقة المجاورة للجميزة، شارع – غورو، فلا نزوح هنا. الناس في منازلهم، يعملون، ويتَّسوَّقون، ويتنزهون، ويتجهون صعوداً نحو الغرب، ليملأوا الشارع الرئيس حياة. وهم من المواطنين اللبنانيين، ذوي الأصول الأرمنية. وقد عُرفت الجالية الأرمنية، بنشاطها وجهدها، وعملها المثابر، للحفاظ على هويتها الأصلية، وثقافتها. فهناك إلى جانب المساكن، والمتاجر، والمطاعم المتخصّصة، المدارس، والنوادي، ومقار الجمعيات، ومقار الأحزاب الأرمنية المتعددة. والشارع، شارع مار مخايل – درب النهر هو بإصرار منهم، شارع أرمينيا، حتى طلعة العكاوي.
ــ لا مجال للنزوح هنا. لا مجال للوحشة. خاصة أن الأمكنة هذه، بكل مؤسساتها، لم يطلها عصف النكبة البعيد. نزح ناس الأمكنة في الأعلى، فلا حواجز في شارع أرمينيا. ورأينا الناس يملأون الأمكنة فوراً بعد العصف النكبة. رأينا الترميم الفوري. رأينا المطاعم والمقاهي، تعود إلى العمل فوراً.
اختلاط اجتماعي ديناميكي، يأبى الهزيمة، ويسخّر النسيج المبني الموجود في الأسفل، للدفع باتجاه الترميم في أعلى الشارع، باتجاه العودة السريعة للنازحين. تشير الزيارات الميدانية المتأخرة، إلى أعمال للترميم، تطال معظم ما أصيب.

* معمار لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا