باريس | لن يكون معرض التشكيلي السوري يوسف عبدلكي (1951) في باريس ترفاً فنياً. إنّه جزء أصيل من أحزان المنطقة العربية وتحولاتها في واحدة من أصعب الأزمات وأخطرها التي يشهدها تاريخها الحديث، وسط كل هذه الخسارات التي لا تتوقف. عشرون رسماً بأحجام كبيرة وصغيرة تخلق ظرفاً بصرياً وذهنياً، قوامه العنف والقسرية وتحريض الكوامن، هي قوام معرض عبدلكي الذي تحتضنه «غاليري كلود ليمان» التي تعد معقل الفن العربية في باريس، بعدما شارك في تظاهرة «آرت باريس» التي ينظمها سنوياً «متحف القصر الكبير».
ليس ثمة خطأ أكبر من مطالبة الفن بشهادة اجتماعية وسياسية، إرنستو ساباتو على حق: أن ترسم بكامل الحرية يعني ببساطة الرسم من دون مطالب أخرى. وإذا كان الفنان يمتلك العمق، فهو لا شك يعطي الشهادة على ذاته والعالم الذي يعيش فيه. ولأنّ الإنسان مخلوق سياسي واقتصادي واجتماعي وميتافيزيقي، فإنّ العمل الفني سيكون، وبالعمق الذي يناسبه (بالشكل المباشر أو غير المباشر، علانية أم خفية) وثيقة الكينونة في زمان ومكان محددين. لكن هناك شعب يُقتل، هل يجوز السكوت فنياً عن ذلك؟
«أمام حجم الدمار والقتل لا يمكن الوقوف على الحياد. نحن ملزمون برسم هذه المأساة البشرية» يردّ عبدلكي. ما يحدث في الشارعين العربي والسوري، شقّ طريقه إلى المعرض إذن، والنتيجة أيقونات مينيمالية تحتفي بالقسوة، وتذكرنا أنّ الثورات أخذت مكان الحروب.

في الحالتين، هناك قتلة وضحايا وعنف. كائنات يوسف عبدلكي لا تستطيع التنفس ولا الموت، يطعنها الهواء المحيط بها قبل أن تطالها نصال السكاكين الحادّة، ويستحوذ عليها العدم في إيقاع لوني غير مكتظ. لا يزال الرسّام مخلصاً لزهده وتقشفه. طموحه أن ينجز الكثير بأقل ما يمكن من السرد. لكنّ تجربته الأخيرة تعدّ نقلة من الطبيعة الصامتة إلى الأشخاص والحركة ومعاناة الحرب. دخل اللون الأحمر الذي لا يُخفي قيمته الرمزية ليوشّح شخوص اللوحات التي باشر الفنان تضخيمها، حتى باتت المبالغة بمقاساتها مثيرة للرعب. ستتراءى للزائر ثلاث سنوات غيّرت وجه سوريا إلى غير رجعة، ينتشل منها عبدلكي تشكيلات حركية ولونية تؤسس للوحة مغوية لا تخلو من سطوة ما، رغم المواجع والقصص الصعبة التي تتموضع فيها.
يوسف عبدلكي علامة فارقة في المحترف السوري، سواء لجهة البصمة الشخصية في رفع العادي والمألوف إلى مرتبة الجميل أم لجهة إعادة اللون إلى نقائه البدائي الوعر والحاد بشغفٍ يستمدّ جذوته من مراس طويل في ميدان الحفر. الفحميات المشبعة بحزن عميق هي البوصلة التي تقودنا إلى توقيعه من دون عناء. أمام أعماله الجديدة، سنكتشف حجم المسافة التي قطعها هذا التشكيلي في مغامرته الناضجة. في الوقت الذي كانت فيه غالبية تجارب مجايليه ترزح تحت وطأة ريح الحداثة الوافدة، كان هو يتلمّس أقلام الفحم وينحت من الظلال بناءً بصرياً مُحكماً وفضاءات مدروسة تأخذ في الحسبان اللون وعلاقة الشكل بمحيطه.
القيمة البحثية في تجارب هذا الفنان تأتي من ميله الدائم إلى الافادة من الواقع واستخدام معطياته بطرق ملهمة. انتظامه في دراسة أكاديمية فرنسية (دبلوم في فن الحفر 1986، ثم دكتوراه في «جامعة باريس الثامنة»، 1989) أسهم في توفير فجوات عدة يمكن أن تنفذ منها تأثيرات متضاربة. لكنّه تجنَّب خداع الجماليات البليدة والأعراف المكرورة لفن اللوحة، والتقط بحس عال ومتأجج كوابيس البشر وحيواتهم المحكومة بالوحدة والحروب واللاّجدوى. فرادة هذا الفنان الستيني الذي عاش منفياً في باريس لأكثر من عشرين عاماً، تأتي من حفاوته بدمامة العالم وعادية كائناته ووضع اليومي والمتعارف عليه في حياتنا أمام الاختبارات، وفي مواجهة مصائر مغايرة لما هو متوقع. السمكة والفراشة والعصفور من الثيمات التي طغت على نتاجه البصري، هي دلائل مؤكّدة يستند إليها في رصده لحالات النكران والضياع والتحولات النفسية العميقة التي نمر بها. هذا الرصد الدقيق لعشرات وضعيات الشكل الواحد والتكرار المثير للقلق الشبيه بالفيتشية، صفتان لازمتا عمله.
ما زال عبدلكي باحثاً عن جوهر الشكل، ساعياً لسبر العلاقة بين الكتلة والفراغ. الحيّز الذي تحتله العناصر في حالات قصوى من التعارض بين السكون والحركة هو لعبته في إنتاج إحساس بالتنافر والحدية، حين يخترق دبوس مُسنن قلباً بشرياً، أو يلتحم معدن مسمار بلحم السمكة الطري.
ينحو العمل إلى معاينة الخراب الذي تخلّفه المجازر والبؤس. سيقابلنا «القديس مار يوحنا فم الذهب مسجى في جامع الحسن بحي الميدان بدمشق» (تقنيات مختلفة على ورق ـ150 × 200 سنتم ـ 2013). طبقات الأسود، وتحجّر الخطوط والانحناءات والتقشف اللوني تأتي ملغومة بإيقاع بطيء لتعيد ذكريات طويلة عن التعذيب والقسر والمقاومة وما أشبه متسلّط الأمس بمتسلّط اليوم. عبء فضاء مجرَّد وساكن تأكيدٌ على حضور جسدي لشهداء من حمص ودرعا وداريا وقد شغلت البعد الأوّل في اللوحة أيادٍ ورؤوس مقطوعة بعدما أصبحت «السلمية» وردة تنضح بالدم. تأخذ بعض الأعمال سمة التوثيق وترتبط بتواقيع وانطباعات مكتوبة، بعبارات مقتبسة من أغنيات شعبية وحكايات وقصائد من الذاكرة السورية الجمعية، في ما يشبه الكتابة على الجدران.
يبتر الرسام مفردات المحيط المألوف: غصنٌ، أصيص، حذاء نسائي، علبة سردين، جمجمة حيوان، زنبقة، عصفور.. ويجعلها مستوعباً صغيراً لإحدى مفارقات الحياة. من هنا، تتحول إلى عينة منفصلة عن العالم، معزولة عن النظم الطبيعية هائلة الحراك، منكفئة في مناخها الخاص، بمعنى أصح: تُكوّن حياة جديدة. الرسم وسيلة للخلود في عالم زائل وحياة طارئة. وحين يرسم عبدلكي، يعمل بعقلية من يصمم حدائق بابل المعلّقة التي تعيد الاعتبار إلى الرسم كفعل تأسيس للعالم وليس مجرد تجربة جمالية موازية له. وقد حرص في معرضه الجديد على أن يقدّم مشهديات الطبيعة الصامتة لأنّنا «نحن كبشر أكثر تنوعاً من أن نكون عبيداً لأمر واحد، ولو كان كبيراً وعظيماً وتراجيدياً مثل الحدث السوري».
لكن الأعمال غايتها تحليل الظواهر السلبية وإبداء مواقف قوية وثابتة في مسائل راهنة. لا ننسى أن الجانب السياسي في تجربة عبدلكي الشخصية، وجد طريقه إلى لوحاته التي أعقبت ملاحقته وسجنه ثم تركه سوريا خلال الثمانينات.
فحميات مشبعة بحزن
عميق هي البوصلة التي
تقودنا إلى توقيعه بلا عناء
ويبدو أنه لم ينعتق من فكاكها. تعيده هذه المرة وجوه أمهات الشهداء المخطوفة بالأسى. هلع الحرب وتأثيرها على شهودها تضع أعماله في امتحانات قاسية. بعدما تعذر وجود أي أسلوب آخر للحياة، يبدو أنّ العالم بأكمله يتحول إلى حجر. تحجّر بطيء يتوقف تسارعه أو بطؤه على الناس والأمكنة. إلا أنه لا يترك جانباً من جوانب الحياة من دون أن يلمّ به. الأمر كما لو أن لا أحد ولا شيء قادراً على الهرب من نظرة «ميدوزا» المتصلبة. اختار عبدلكي أن يتابع البحث ضمن الإطار ذاته: الخلفيات مشغولة بأسود بارد ومُطفأ شبيه بسطح المحفورات، لا تصل ألوانها الشحيحة أساساً إلى ملمح نهائي، ما يفرض ضبابية تؤكّد دلالاتها القاتمة. والمناخات المأتمية تسهم في تقويض كل ما هو طبيعي في مفردات وأشكال واضحة الهوية لتحوّلها إلى رموز وأيقونات.
وللزائر المدفوع إلى الاعتقاد بأنّ الحرب هي أبداً أعتى الأحداث وأوسعها تدميراً لكل ما له قيمة إنسانية، أن يتساءل إن كانت التطورات التي شهدتها المنطقة قد أسهمت في نمو بيئة المحترف البصري السوري وفق منظور جديد. هل يمكنه أن يلعب دوراً تنويرياً في بنية المجتمع؟ أن ينشأ كحالة رفض أو كقوة ناهضة في مواجهة رؤيا الدولة؟ ليس بوسعنا ونحن نعيش في قلب الحدث، أن نتبين حقيقة التغيرات الضخمة التي جرت وتجري، وما من بصيص يدلّ على المستقبل الوافد. نحن عاجزون عن إدراك ما نزخر به من أحاسيس ولا ندري قيمة ما يصدر عنا من أحكام. لذلك، تبدو الأعمال المُقدمة في هذا الظرف على تنوعها وكثافتها قد نُفّذت تحت ضغط سياسي وعاطفي: «أظن أننا نحتاج لسنوات طويلة حتى نتمكن من تقديم لوحة حقيقية تعبر عن المأساة السورية» يعلّق عبدلكي الذي يحاول تحرير لوحته من محليتها بالإشارة إلى أنّه حين رسم غويا لوحته «3 مايو» التي تمثل الإعدامات الفرنسية للثوار الإسبان في3 أيار (مايو) 1808، إنما كان يصوّر ويدين إعدامات الحرب في العالم كلّه. هذا يذكّرنا بقول للشاعر جون دون «ليس هناك بين البشر مَن هو جزيرة مكتفية بذاتها. كل إنسان جزء من أرض تمتد بلا فواصل، جزء من الكل. لا تبعث إذن أحداً ليخبرك بمن تنعيه الأجراس، فالأجراس تنعيك أنت» وأجراس سوريا تنعينا جميعاً.



«يوسف عبدلكي، الأعمال الجديدة»: حتى 3 أيار (مايو) ــ «غاليري كلود ليمان»، باريس ــــ claude-lemand.com