تحت شجرة الاسفندان
تقع بحيرة Lietzensee على مسافة مئة متر من داري في برلين. وأحياناً أتجوّل حول البحيرة وأطرافها، فأتأمل نباتاتها وزهورها وأشجارها، وخاصة أشجار الاسفندان العملاقة المعمّرة. فتجعلني أفكّر فوراً بأنّني كائن زمنيّ موشك لا محالةَ على الزوال، لكنّها ستبقى شاهدةً حيّةً على الوجود الإنساني المتهافت وعلى المخلوقات المسكينة البائسة والحاقدة، لأسباب جينية ربّما، أو بلا سبب حتّى، ولعلّ الإنسان جُبِلَ أصلاً على الضغائن والأحقاد دون أن نعلم بذلك. وعندما أتكأت على جذعها المتين، فكرّت في تاريخها هي نفسها وقلت إنّها قد شهدت بلا شكّ العديد من الأحداث التاريخية التي غيّرت ألمانيا وأوروبا برمّتهما. فهي قد شهدت تتويج القيصر البرويسي فريدريش الكبير الذي حوّل برلين إلى عاصمة. وربّما مرّ نابليون وجيشه من أمام هذه البحيرة إبان احتلال برلين عام ١٨٠٨. وربّما صلّى هنا الجنود المسلمون في الجيش الروسي وهم يطاردون فلول نابليون بعد هزيمته بخمسة أعوام. وربّما استراح تحتها المستشار البرويسيّ بيسمارك بعد حروبه المضنية داخل ألمانيا وخارجها، والذي جعل منها حاضرة دولة ألمانية عظمى. ولعلّ آخر قياصرة بروسيا غليوم الثاني والذي تهجع رفاته على مقربة مئتي متر من هنا، قد تجوّل حولها وفكّر للمرّة الأولى في إقامة سكّة قطار بغداد-برلين. وأخيراً جعلها هتلر عاصمة «رايش الألف عام» والذي انهار خلال اثني عشر عاماً ليس إلا، قبل أن تتقسم إلى شطرين ثمّ تتّحد من جديد. والآن عندما أنظر إلى هذا التاريخ وهذه الأسماء أرى نفسي ظلّاً عابراً في هذا الربيع البرلينيّ المبكّر، زاهداً في كلّ ما سيقوله العرب وغيرهم عنّي وما سيكتبونه وينشرونه، مدحاً كان أم قدحاً. فأنا صنو هذه الشجرة، ولا أحد لي غيرها، ولم أطلب في حياتي شيئاً من أحد، ولن أطلب سوى أن أُدفن بين جذورها، لكنّني أعلم تماماً بأنّ هذا الطلب بعيد المنال.


■ ■ ■

علي بدر في الحلم
قرأت ليلة الأمس مقالة كتبتها ناقدة عربية عن رواية «الكافرة» للكاتب العراقي علي بدر. ثمّ قلّبت المواقع الإلكترونية متابعاً أخبار الحرب على الإرهاب في سوريا والعراق، والموصل خاصةً. وكنت أفكر طوال الوقت بمستقبل «المدن» التي سيتمّ تحريرها من براثن الإرهابيين الإسلاميين، وهل أنّ أولئك الذين يشنّون الحرب على داعش قادرون فعلاً على إعادة بنائها وتسهيل عودة سكّانها المهجّرين وتوفير الحياة الإنسانية «الكريمة» لهم؟! وعلى حين غرّة أخذتني غفوة، فرأيت علي بدر نفسه يجلس على أريكة من الخشب في مقهى ألماني، لكنّ المقهى في الحلم كان يشبه قهوة حسن عجمي في بغداد وفي زمن الحصار. وكان علي يجلس وحيداً، ففرحت برؤيته. ثمّ خرجت من المقهى لألغي موعداً أو عملاً كان يجب القيام به، وفكّرت في أن أمضي النهار برفقة علي بدر، فأطلعه على المتاحف البرلينية التي أفضّلها على غيرها. لكنّني لم أرَه، ولم أرَ أحداً آخر يعرفه لكي أسأله عنه. فقلت في نفسي: لعلّه اعتقد بأنّني انصرفت عنه عمداً. وصرت أضرب أخماساً بأسداس وأسداس بأسباع، وخرجت أبحث عنه في الشوارع. فلمحت مخيماً في الصحراء الألمانية، وكان رمادياً مترباً، وسمعت أحداً يهتف بي من بعيد. وكان رجلاً ضخم الجرم يرتدي بدلة بنيّة اللون وربطة عنق ويقف أمام طاولة جلس إليها عدد من الناس. فقال مخاطباً شخصاً آخر: إنّ هذا صديقه حسين الذي لم يره منذ سبعة عشر عاماً. فسألته وماذا تفعل هنا؟ فقال أتيت إلى ألمانيا لأقيم دورة لتعلّم اللغة العربية. وأعرب عن رغبته في الذهاب إلى مقهى برفقة زميله، وكان كبير الرأس وأبيض البشرة، ولعلّه كان سوريا. فقلت ونحن نسير في الطريق بأنّ هناك قاعدةً واحدةً ومهمّةً لتعلّم اللغة العربية، وهي بسيطة ويمكن أن يعرفها حتّى الأطفال، لكنّنا نرى كبار الكتّاب لا يلتزمون بها وهي: فعل وفاعل ومفعول به.
وعثرنا على مقهى غير بعيد من مخيّم تعليم اللغة العربية. وكان يقع ضمن مبنى فندق كبير، وقد وقف ندل بثياب مزركشة وكانوا يعتمرون القبّعات. وحالما جلسنا انتبهت إلى أنّني فقدت حذائي في مدخل الفندق. فعدت أبحث عنه، وسألت أحد الحرّاس فأشار إلى صندوق توضع فيه اللقى، حيث عثرت على حذائي فعلاً. لكنّني عندما وضعته، وبسعادة بالغة، في قدمي أدركت بأنّه ليس حذائي. وحسبت أن النادل أو الحارس سيشكّ في غرضي، وقد يعتبرني لصّاً، فتركت الحذاء وعدت حافياً إلى المقهى، لكنّني لم أعثر على المدخل، فدخلت من باب جانبي. وسألت نفسي هل يعقل أن يكون هذا المقهى العملاق بلا باب؟ وتذكّرت «خطيبتي» الوهمية التي أهدت لي حذاءً عربياً صرت أستخدمه في ترتيب حديقتي، حتّى أنّني طفقت أنشد ذات مرّة: «ولقد رجعت بخفيّ حسين/ فيا له من حذاء عربيّ متين/ سأقطع به كلّ ما بقي لي في المنفى/ من أيّام وسنين!»
وأخذت أوجه اللوم الشديد إلى نفسي وكيف أنّني أضعت اليوم فرصتين نادرتين لاحتساء القهوة مع علي بدر ومع المعلّم التونسي وصاحبه السوريّ الغامض الذي كان يبتسم طوال الوقت. واكتشفت بعد حين بأنّني كنت أسير حافياً، بل إنّ سروالي قد اختفى ولم يبق سوى القميص الطويل والسروال الداخلي. وخاطبت نفسي معاتباً إياها: يا إلهي ماذا سيقول الناس عنّي: هل تهرّب من إكرام ضيوفه الذين لم يرهم منذ أعوام وأعوام؟!
فيا له من حلم، أو كابوس!
■ ■ ■

أشياء الخريف
كان الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه يحاول في البدء محاكاة الطبيعة ثمّ إنقاذها من الإسقاطات البشرية، ليعيد لها استقلاليتها لغوّياً. ويبدو أنّه لم يكتفِ بذلك، إنما جعل من نفسه أحد إسقاطاتها أو أخطائها الجسيمة. فهو لم يكن غصناً أو فراشةً أو فهداً يطوف داخل القضبان في متنزّه دو لوكسمبورغ في باريس، إنما مجرد إنسان محطّم يحاول ترميم العالم على حدّ تعبيره. فحوّل الحبّ إلى دين والحياة إلى شجرة والخريف إلى زمن النضج ومن ثمّ الرحيل. وعندما أتأمل الخريف في حديقتي وأرى أوراق شجرة العنب البرّي وهي تمدّ ذراعيها الطويلتين على السياج صفراءَ وبرتقاليةً وحمراءَ كأساور الذهب القديم، وتلك الجذاذة الصغيرة من الشمس التي تشعّ قليلاً على القمرة الخشبية التي وضعت فيها عدّة الفلاحة كأنها تودعها قبل الرحيل وإلى زهرة القرنفل التونسية الحمراء في سنديانتها وإلى الفراشة التي أصابها الوهن وهي تدرك بأنّ هذا هو خريفها الأخير بعدما اكتملت دورتها الحياتية وباتت تخفق بجناحيها اللذين رفرفا عاماً كاملاً من دون أن ينتبه إليها أحد؛ فإنّني أفكر حينئذ في حياتي نفسها التي مضت سريعاً مثل خفقة ريح وخطوةِ فهد وحيد في قفص حديديّ في باريس وشجرة الكرمة البريّة البرلينية التي أخذت تصبغ أوراقها قبل أن تنضوها، فتتعرّى من أجل الشتاء الذي صار يقرع بقوّة بوّابة الروح بقبضته الباردة، وأتذكّر صباح الخرّاط زوين التي كانت تسألني عن حديقتي بين الحين والحين، والآن حتّى صباح الخرّاط زويّن رحلت أيضاً.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا