الموت هزيمة لكلّ من يبقى حياً، وربما انتصار باهت، بلون كاكي للراحل وحده، وهو يذوي في مكان ما، بعيداً عن عيوننا! لعلّها الجملة الأكثر عزاء ونحن نعيش زمناً يغرقنا في وحل الوباء والأزمات المتلاحقة، والوقت الذي يضيّع من الموت المتكاثر مهابته، ويفوّت الفرصة على الدمع الوفير! حقبة لعينة تطوى فيها صفحات الناس بتسارع مقيت، بدون حتى مراسم وداع لائقة، أو عناق محبين يبدد شيئاً بسيطاً من هول المصيبة! لعلّ أفضل ما يمكن فعله عند سماع فجيعة مدوية كخبر رحيل المخرج حاتم علي (1962/2020) ظهر الأمس، العودة إلى مكتبة الفيديو وحضور بضعة مشاهد من رائعته «التغريبة الفلسطينية» (كتابة وليد سيف). فبينما كانت توضّب تقاسيم وجه الراحل خالد تاجا، زوّادة التهجير القسري الذي عايشه الفلسطيني في أقسى مشاهد العمل، كانت بارودة أبو صالح (جمال سليمان) تنازع بآخر طلقاتها، في نضالها الشجاع ضد هجوم اليهود على الأرض المحتلة! أبو صالح ذاته الذي مرّغ أنف المسؤول عن توزيع الإعاشة، عندما عامله بتعالٍ ناسياً أنه يكّلم أحد أبطال الثورة الفلسطينية! كان كلّ ذلك تجسيداً بصرياً يحرث الوجدان ويعبث بمنطق التلقي، وهو يترجم حرفياً كلمات الشاعر إبراهيم طوقان التي روت الحكاية منذ الشارة وهي تقول: صامت لو تكلّم، لفظ النار وارتمى، قلّ لمن عاب صمته ولد الحزم أبكم! الكلام سيدوزن منذ الاستهلال الأوّلي حجم الفقد، عندما تراكمه أنامل الموسيقي البارز طاهر مامللي. تلك المشاهد، كما كلّ تفاصيل المسلسل، صاغها حاتم علي بلغة القصة القصيرة التي أجادها باكراً، وهو بدون أن يدرك إلا لاحقاً، بأنه كان يغرف حينها من ذاكرته الحياتية الطفولية المترفة بالصور الشبيهة. تلك المشاهد إذاً ليست سوى فلاش باك تقليدي، وتبديل في الشخوص، مع تصنيع حكائي واقعي. فبدل أبطال التغريبة، ستحل عائلة حاتم علي، التي نزحت فعلاً في يوم ما، من قرية فيق في الجولان المحتّل. وربما لن يكون حسن (باسل خيّاط) سوى محاكاة درامية لأحد أصدقاء والده، ولعلّه بعث شيئاً من شخصيته في الطالب الجامعي علي (تيم حسن)، وغالباً فإن أبو صالح هو محاولة صناعة معادل موضوعي لوالده، الذي زفّ فعلاً نبأ استشهاده لعائلته آنذاك، ثم عثرت عليه جريحاً في أحد المشافي! مثل تلك الأخبار عادت الشام لتعايشها مجدداً منذ مطلع 2011، لكن من بوابة حرب أكثر شراسة ذهب السوريون وقوداً لها. عندها قصد صاحب «الزير سالم» (كتابة ممدوح عدوان) بلاد الله الواسعة، من دون أن يتمّكن من استحضار المزاج المتوهّج ذاته، الذي كان قد رافق دروبه الإبداعية في وطنه! إذاً، المكان لا يمكن أن يصنع فناناً، لأنه سيصنع نفسه بالجهد، والحلم، والعرق، وقبلها الموهبة العميقة! لكنّ هذا المكان حتماً سيؤثر فيه، ويشكّل جزءاً من لاوعيه، ويعيد تدوير نبضات قلبه على شكل إبداعي، وهو ما حصل مع حاتم علي الذي حفر خطواته، بحرفة من يريد لهذا العالم أن يتذكّر على طول العمر موطئ كلّ واحدة منها. فهو إن عاش بهدوء وصمت المبدع الحقيقي، فقد رحل بصدمة الموت بأحلك عتماته، وأوجع أشكاله، بعدما عثر عليه جثة هامدة في أحد الفنادق المصرية حيث يقيم ويحضّر لعمله «سفر برلك» الذي كان يرصد له ميزانية وفريق عمل معتبرين، ليكون فسحة يستعيد من خلالها صاحب «ثلاثية الأندلس» وهجه الذي غزا فيه المحطات العربية، وصنع مكاناً متقدماً لسوريا في صناعة، هي الوحيدة التي قدّمت دمشق بسوية فنية متألقة، وجعلها تنافس، ويشار إليها بإجلال بالغ!الرجل كان سلاحه التجريب، بمنطق عميق وحكيم. لم يكن يراهن بدون خبرة، أو معرفة، أو وعي كاف. نضوجه جعله ينام ويصحو على سكّة بحث دائمة. وهّمه كيف يزوّد المشاهد بأعلى جرعات دهشة ومتعة ممكنة، حتى ولو بالمسائل التقنية الموغلة في الخصوصية. من لا يتذكر مثلاً حركة الكاميرا في «أحلام كبيرة» (كتابة أمل حنّا) أو مثلاً تمرير الوقت والصوت الداخلي للممثل في «على طول الأيّام» (فادي قوشجقي) أو الشكل البصري في «عصي الدمع» (زوجته دلع الرحبي) من يخفى عنه المبارزات الأدائية لكوكبة النجوم السوريين الذين قادهم في «ملوك الطوائف»! الرجل كان ينقل إلى المشفى من شدة التوتر في التصوير، لكنّه كان من أكثر الناس هدوءاً، واتزاناً، وصمتاً في الحياة. حكت عنه الصورة أكثر مما حكى عنها، ولعّل هذا ما جعله يؤسس شركة إنتاج تملك استديوهات ضخمة في ريف دمشق اسمها «صورة» واسمه محفور على كلّ جدار فيها. ربما يؤخذ عليه أنه أوّل من أنجز مسلسل تلفزيوني في وقت قصير. كان ذلك في «الغفران» (حسن سامي يوسف) لكنّ الأمر يشد عليه كثيرون ويعتبرونه توطئة وتمهيداً للمنتج، عندما يكون العمل معاصراً وسهلاً، يمكن أن ينجز في عدد أيام أقل. وعدا ذلك كل الإمكانيات يجيب أن توضع في خدمة المشهد!
كأن حاتم علي خلال مشوار حياته كان يردد لماضيه بأن لا يغيره وإن ابتعد عنه، ويطلب من الحاضر أن يتريّث عليه قليلاً ليصنع مشروعه ويهديه للمستقبل، الذي لا يعرف ماذا يخبئ له. لكنّه قطعاً لم يكن يخطط بأنه سيمضي بهذه السرعة، والطريقة الصاعقة.. وحيداً، بعيداً، عن بلده، وقبل أن ينجز آخر أحلامه.
كأنه يعيد بتصرف بسيط شعر نزيه أبو عفش الذي كتبه لشارة مسلسله «أحلام كبيرة»: نامي إذا يا روح نامي الآن، هي آخر الأحلام نطلقها على عجل ونمضي!

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا