إنه آخر الرحابنة الكبار... الياس الرحباني الذي مثّل حبة الفاكهة الشهية على قالب الحلوى الرحباني الباذخ مضى إلى ذاكرة اللحن الموشى بالحنين. الخبر لا يعني رحيل رجل، هو يحيل إلى انطواء مرحلة زمنية اتّسمت بثراء كثير. أن يموت الياس الرحباني، فذلك يعني غياب النغمة الموسيقية الواثقة من قدرتها على الإبهار. كما يؤشر إلى تضاؤل الدهشة المنبعثة من التقاء الأنامل الساحرة بالمفاتيح التائقة للبوح. وللحدث أيضاً أن يتيح قدراً من التأمل في المصير الذي ينتظر الموسيقى العربية على مفترق الغياب.. كان في مقتبل العمر عندما تعيّن عليه أن يصغي بملء حواسه إلى شقيقيه عاصي ومنصور يعيدان صياغة الذائقة الفنية على امتداد الحضور. وكان يجدر به أن يسعى لمجاراتهما في دربهما المفضي نحو دهشة خالصة. قد يظن بعضهم أن الياس الرحباني ولد وفي أذنه معزوفة موسيقية جاهزة. الإنصاف يقتضي القول بأنّه أطلّ على الحياة ليجد نفسه أمام التحدي الصعب: كيف يكون ثالث اثنين تنكّبا مهمة إعادة صياغة اللحن وفق معايير مغايرة لكل ما هو سائد؟ لم يكن أمامه سوى خيار الاختلاف مع المأثور والموروث... وقد فعل.
عام 1938، أبصر الياس الرحباني النور في انطلياس. أطل على الدنيا من بيت تشبّعت حجارته بالشعر والموسيقى والأغنية الخارجة على المألوف. انتسب إلى المعهد الوطني للموسيقى عام 1955، كما تتلمذ على أيدي مدرسين فرنسيين لأكثر من عشر سنوات. كان يجهز نفسه للسفر إلى روسيا لمتابعة دراسته الفنية عندما أصيب بعاهة في يده اليمنى وضعته بمحاذاة التخلي عن حلمه الطفولي. لكنها الإرادة المحصّنة بالموهبة التي جعلته يكمل الطريق نحو التأليف الموسيقي ليبرع في صياغة النوتة على إيقاع استشراف نادر.

منصور وعاصي والياس

عام 1958، ارتبط بعقد مع الإذاعة البريطانية «بي. بي. سي»، ليضع ألحاناً لأربعين أغنية، وثلاثة عشر برنامجاً إذاعياً. وفي عام 1962، لحّن للراحل الرائع نصري شمس الدين أغنية «ما أحلاها»، ثم دخل الإذاعة اللبنانية ليعمل فيها بصفة مخرج، ومستشار، كما عمل كمنتج موسيقي في إحدى الشركات. مع اشتعال الحرب اللبنانية، سافر مع عائلته إلى باريس عام 1976، حيث تطعّمت تجربته الموسيقية بنكهة أوروبية مميزة.
لاحقاً كان على الياس الرحباني أن يخصص وقتاً لتسلّم جوائز الاعتراف بموهبته الموسيقية المتميّزة: «جائزة مسابقة شبابية للموسيقى الكلاسيكية» عام 1964، جائزة عن مقطوعته الموسيقية «انتهت الحرب» من «مهرجان أثينا» دورة عام 1970، الجائزة الثانية من «مهرجان لندن للإعلان» عام 1977، شهادة السينما في «المهرجان الدولي للفيلم الإعلاني» في البندقية عام 1977، الجائزة الثانية في «مهرجان لندن الدولي للإعلان» عام 1995، الجائزة الأولى في روستوك في ألمانيا عن أغنية «موري»، إضافة إلى جوائز أخرى نالها من فعّاليات موسيقية في البرازيل واليونان وبلغاريا. في عام 2000، أقيم له احتفال تكريمي في «جامعة بارينغتون» في واشنطن حيث مُنح شهادة الدكتوراه الفخرية، ولاحقاً تلقّى تكريماً مماثلاً من «جامعة استورباس» الإسبانية.
زاد عدد الأغاني التي لحّنها عن 2500 أغنية منها قرابة الألفين باللغة العربية


زاد عدد الأغاني التي لحّنها الياس الرحباني عن 2500 أغنية منها قرابة الألفين باللغة العربية. كما وضع مقدمات غنائية للعديد من الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية، منها «دمي ودموعي وابتسامتي»، و«حبيبتي» و«أجمل أيام حياتي»، ومسلسل «عازف الليل». غنّت له الشحرورة صباح: «كيف حالك يا أسمر» و«شفته بالقناطر» و«ياهلي يابا». كما غنّت له فيروز: «يا لور حبك»، «الأوضة المنسية»، «معك»، «يا طير الوروار»، «بيني وبينك»، «جينا الدار»، «قتلوني عيونا السود»، «يا اخوان»، «منقول خلصنا»، «كان الزمان»، «كان عنا طاحون». أنتج وألَّف عدة مسرحيات، منها: «وادي شمسين»، «سفرة الأحلام»، «إيلا».
ها هو الياس الرحباني يرحل كما يفعل الناس جميعهم، لكنّه برحيله يؤكد أنه أحد قلة سيكون ذكرهم حاضراً كلما توافقت النغمة مع مثيلتها لتصنعا اللحن الباقي بقاء الحياة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا