قوسٌ للنصر كبيرٌ انهزم والتوَت رقبته، وقد أُريدَ له أن يكون باب الدخول إلى المدينة المحطّمة. وبلا عتبة انتقالية، نجد أنفسنا فجأة أمام مجموعة من الأعمال «المينياتور» إذا ما قيست بالقوس الكبير الذي يفترض أنه نسخة مكبّرة عنها. المنحوتات الخزفية كلها تشكيل للواحد المتعدّد (القوس)، الذي طُرح أرضاً بفعل الزلزال الذي ضرب المدينة فأحالها خراباً.المفارقة بين مشهد قوس المدخل وما يليه من عرضٍ للمنحوتات، أنّ الثاني يكشف عن تحولات عالم يوحي للمخيّلة بأنّه بات أقرب إلى الزواحف والسحليّات. كأنّ المدينة لم تعُد للبشر، وكل ما يدبّ فيها ويتحرّك لا يداني مقام القوس. ويظهر في مدار الرؤية الإبداع في صياغة منحوتات خزفيّة تحاول أن تتحرّر على طريقتها من لباسها الترابي.
هيمنة القوس الأبيض الكبير الذي يفرض الإيقاع على المنحوتات المنمنمات، ربّما تختزل المفارقة بين البُنية الفوقيّة للمدينة والبنية التحتية.
تدعونا سمر مغربل في معرضها Art de Triomphe في «غاليري صالح بركات» بعفويّة حيويّة إلى الخوض في السؤال الأبدي: بماذا يمكن أن يُطالب الفنّان نفسه في المقام الأوّل والأخير؟ هل من خلاص له بعيداً عن إشكاليات زمنه، أو عن كل ما يجعل منه كائناً حياديّاً في زمنٍ ينوء تحت وطأة الانحطاط؟
ليست تمثيلات الزواحف والمخلوقات المنقرضة سوى التعبير القلق عن هذه المسألة. ولكي تمضي قُدماً في إنجاز هذه المهمة الصعبة في ميدان النحت الخزفي، التزمت الفنانة نظاماً قاسياً يقضي بنسيان كل ما هو شاعري أو إنساني باستثناء ألوان النسيج الخزفي وتحولاته.
انفصال، برودة، انكفاء. لم يعد مهماً أو ضرورياً الحنين إلى ما كانت المدينة تشيعه من صور ومشاعر؛ بل المهم استعادة العين لليدِ الفاحصة المنقّبة في أحوال المدينة الفاسدة، والبحث عن ضمور الإنسانية في أعماقها. وفي هذا السياق من «نكران الذات»، تستعيد سمر مغربل شغف عالمة آثار تُخرج مشغولات بالسيراميك ربّما تكون على صلة بالعالم البيولوجي. أيّ «انتصار على الذات» يعني هذا الانكفاء عن البنية الفوقية للمدينة، والتجرّؤ على إنزال قوس النصر من عليائه إلى أرض الصانع الأوّل: «أنت من التراب وإلى التراب تعود».
المنحوتات الخزفية كلها تشكيل للواحد المتعدّد (القوس)، الذي طُرح أرضاً بفعل الزلزال الذي ضرب المدينة فأحالها خراباً


لا يعني هذا أنّني أريد أن أنكر الجمالية البنيويّة لمقاربة سمر مغربل؛ وإذا ما اعترفتُ بأنّ هذا البحث في أركيولوجيا المدينة المحطّمة جديرٌ بالاهتمام، فإنّما للتأكيد على أنّ تحوّلات قوس النصر يمكن أن تخفي شيئاً، وأنّ في الإمكان الكشف عمّا قد يكون غير ظاهر والتعبير عنه. إنّ الإبداع هنا هو في التكرار الذي يعمل إظهاراً للمعنى، أو تمثيلاً لشيء خارجه، أو تشكيلاً افتراضيّاً لماضٍ يُعاد اكتشافه كما يفعل علماء الآثار.
وعلى هذا المنوال، يصبح التكرار مبدأ من مبادئ العمل. مبدأ يمنح الواقع معناه الوجودي. تتعدّد الإيقاعات والأشكال، لكن «الموتيف» يتكرّر باستمرار، كما لو أنّه يسعى إلى إثبات القدرة على التوالد إلى ما لا نهاية. كما أنّ الصور الذي يعتمدها التكرار، هي صور بيولوجية باستمرار تنتمي إلى شجرة عائلة متجانسة. وعلى هذا النحو، تبدو سمر مغربل منجذبة إلى التوفيق بين صياغتها الأسلوبية واستعارة التوالد البيولوجي، وصولاً إلى بناء نمطٍ من الفعل المتكرر يتّصف بانحطاطٍ عام في مستوى الوجود من حال التحضّر إلى حال البربريّة.

* Art de Triomphe لسمر مغربل: حتى 16 كانون الثاني (يناير) ــــ «غاليري صالح بركات» (الحمرا ــ بيروت). للاستعلام: 01/365615

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا