«إنّه عمل ممتاز. في يوم الاثنين نحرق كتب ميلاي. في يوم الأربعاء، كتب ويتمان. في يوم الجمعة كتب فوكنر. نحرقها حتّى تصبح رماداً ثمّ نحرق الرّماد. هذا شعارنا الرسمي» بهذه العبارة يوصّف عمله رجلُ الإطفاء «مونتاغ» بطل رواية «فهرنهايت 451» (1953) للأميركي راي برادبوري (الساقي ـ ترجمة سعيد العظم). فكرة استثنائيّة ومرعبة اختارها برادبوري (1920 ـ 2012) ليبني عليها حكايته في رواية تحمل الكثير من المتعة والتشويق اللذين أتيا في سياق العمل كحاملٍ لمجموعة من الأفكار الخطيرة. إنّه عالم المستقبل المتخيّل. عالمٌ تحكمه سلطة شمولية تلاحق بقايا الكتب التي خلّفها البشر لتعمل على حرقها. في الوقت الذي صارت فيه كلّ البيوت مضادة للحريق، تبدلّت مهمات رجل الإطفاء. غدت مهمّته إشعال الحرائق في الكتب مع الاحتفاظ بلقب رجل الإطفاء. تناقضٌ اختاره برادبوري ليؤكّد فيه مقولة السلطة في هذا العالم التي ترى في إحراق الكتب إطفاءً لحرائق أخطر قد تنشب جرّاء قراءتها. وهو ما يجعل من مونتاغ رجلاً سعيداً بعمله.
كلّ ذلك بينما غدا التلفزيون وسيلة المعرفة الوحيدة المتاحة والمسموحة في ترجمة لمقولة السلطة «أعط الناس مسابقات يربحون فيها إذا ما تذكروا أسماء الأغاني الشهيرة أو أسماء عواصم الولايات. أو كم من القمح أنتجته ولاية «أيوا» العام الماضي! احشهم بالحقائق السريعة الاحتراق حتى يشعروا بأنهم أذكياء».
هذه محاولات دائمة لاختصار كل شيء وتسهيل الحصول عليه للوصول إلى إنسان مستهلك عاجز عن التفكير.
بعد لقائه من طريق المصادفة بكلاريس، بدأت الأسئلة تدهم رأس مونتاغ. هذه الشابة التي يصفها الناس بالجنون لأنها تمشي طوال الليل، وتحبّ رائحة الأشياء هي التي نبّهته إلى الوجود، حين سألته: «هل تقرأ أيّاً من الكتب التي تحرقها؟».
يحيلنا في
بعض مقاطعه
إلى لغة بورخيس
من طريق المصادفة أيضاً، وجد مونتاغ نفسه مدفوعاً إلى سرقة بعض الكتب المكلّف إحراقها، وخصوصاً بعد حادثة المرأة العجوز التي رفضت أن تحرق مكتبتها فأُحرِقت مع الكتب. عبارات صغيرة تتسلّل من الكتب إلى رأس مونتاغ فتغيّر مصيره، ليجد نفسه فجأة في موقع المتّهم بحيازتها. تهمة يعرّض فيها نفسه وزوجته وبيته لخطر الحريق والمحاكمة.
لا يجد مونتاغ أمامه سوى الهرب بعدما دافع عن نفسه وعن كتب بقيت بحوزته، فأحرق رئيسه في العمل، وصار مطلوباً كمجرم ارتكب جناية وجرائم ضد الدولة. مونتاغ الذي حمل طوال حياته شعار «451» درجة الحرارة اللازمة ليحترق فيها ورق الكتاب، يمضي وحيداً هارباً إلى منطقة نائية وقد حفظ في رأسه كتاب العلوم الكنسية بعدما فقد على الطريق آخر نسخة باقية منه في العالم. وفي منفاه النائي، سيلتقي أناساً يشبهونه يحمل كلّ منهم كتاباً في رأسه، ويعملون معاً على إنقاذ الإرث الإنساني من بطش سلطة تمتهن تحويل البشر إلى كائنات آلية. استخدم برادبوري لغة شعريّة في سرده، فيما يحيلنا في بعض مقاطعه إلى لغة بورخيس، بما تفتحه من آفاق في الجملة القصيرة المكثّفة، تاركةً لدى القارئ مجموعة كبيرة من الأسئلة الوجوديّة التي تكتسب أهميّتها من عاديتها ووجودها أمامه من دون أن ينتبه لها.