يقدّم دارن أرونوفسكي (1969) نسخة معاصرة من سيرة النبي «نوح»، منطلقاً من النصوص الدينية وصورها المتخيلة التي يعيد بناءها ويجسّدها على الشاشة بأسلوب يتجه إلى الأكشن الهوليوودي الضخم (كلفة الانتاج 130 مليون دولار). لكن في مضمونه والاستعارات التي يتبناها، يستكشف السينمائي الأميركي مفاهيم أكثر تعقيداً من ثنائية الصراع بين الخير والشر، إلى جدل العلاقة بين الخالق والمخلوق.
إلا أنّ الصحافة الفرنسية أخذت على المخرج الأميركي أنّه حوّل النبي من رجل مسالم إلى محارب مفتول العضلات في خدمة الله (راسل كرو)، كما حوّل النصّ الديني ذا الأبعاد الشعرية إلى استعراض ضخم وتبسيطي. يصوّر المخرج النبي «نوح» المتنازع بين دوره كأب وزوج وكنبي، وبين إيمانه بالله وإيمانه بالإنسان معاً. باستثناء لبنان، منع الفيلم في مصر ومعظم الدول العربية بسبب تصويره للأنبياء، الأمر الذي تحرّمه الشريعة الإسلامية ولو أنها مسألة إشكالية نظراً إلى أنّه تم عرض المسلسل الإيراني «يوسف الصديق» الذي يصوّر النبي يوسف على قناة «الكوثر» وبعدها على قناة «المنار» وغيرهما من الفضائيات. كذلك، لم يلق فيلم «آلام المسيح» لميل غيبسون عام 2004 ردة الفعل العنيفة نفسها رغم تصويره المسيح، فعرض في مصر من دون معارضة الأزهر. قد يعود ذلك جزئياً إلى الطريقة التي صوّر فيها الفيلم دور اليهود في التآمر على المسيح لصلبه، ما لاقى ترحيباً من العرب في حين اعترض عليه بعض اليهود بحجة معاداة السامية. لاقى «نوح» أيضاً انتقادات من المتدينين في أميركا حتى قبل عرضه، خصوصاً بعد تصريح أرونوفسكي بأنّ «العمل سيكون أبعد ما يكون عن الفيلم الديني». لكن ذلك لم يحل دون منعه في الصالات، وهذا هو الاختلاف بين ثقافة تقوم على احترام عقل المشاهد وحرية التعبير والاختيار وأخرى تقوم على المنع والقمع والوصاية.
في الواقع، لم يقم أرونوفسكي فعلياً بتحريف النص الديني في بناء حبكته، بل استمد من سفر التكوين والتوراة العناصر التي يريد، ومزجها بحرفة ليوجّه القصة حيثما يريد. مثلاً، أدخل شخصية طوبال قايين الذي يُفترض أنه من سلالة قايين ابن آدم وحواء، الملك الشرير الذي يرفض الاستسلام لموته المحتوم والخضوع لمشيئة الخالق ووضعه مع البشر في مواجهة متخيلة مع النبي نوح التي تدافع عنه مخلوقات عملاقة من الحجارة. الأخيرة هي ملائكة عصت الخالق فسجنها داخل قوالب من الصخر. هذه المخلوقات تساعد نوح في بناء السفينة المهولة التي ستحمل على متنها كل حيوانات الأرض، اثنان من كل فصيلة. يعتمد المخرج على إضافات مستوحاة من النصوص الدينية، وفي أحيان أخرى على حلول أكثر واقعية لإيجاد مخارج للعقبات التي تعترضه في رواية هذه القصة كطريقة النبي «نوح» وزوجته (جنيفر كونيللي) المبتكرة في تخدير الحيوانات لوضعها في السفينة. كذلك، يدخل عوامل أكثر حداثة كالأسلحة التي نراها في المعارك وقد لا تتفق تماماً مع سياق الفيلم التاريخي. لكن لا يبدو أنّ هدف المخرج الأساسي هو تقديم نسخة أكثر واقعية عن سيرة «نوح» (الأمر مستحيل عملياً)، بل يختار أن ينعتق تماماً من القيود في سرده السينمائي متماشياً مع الجانب الأسطوري من قصة النبي، مالئاً الثغرات بتفاصيل متخيلة. ورغم صور الرعب المتمثلة في المجاعة وتقاتُل الناس وأكلهم لبعضهم بعضاً، أو مشاهد الحشود التي تسحق وتتناثر تحت أرجل المخلوقات العملاقة الصخرية، إلا أنّ هذا الفيلم الذي يجسد نهاية العالم قد يعتبر أقل أعمال أرونوفسكي سوداويةً نسبة لأفلامه السابقة كـ«جناز حلم» (2000) و«البجعة السوداء» (2010). ينجح المخرج ببراعة وبطريقة مستترة غالباً في السير بقصة النبي «نوح» في الاتجاه الذي يريد. يصوّر لنا نوح مثقلاً بالذنب، ينفّذ المهمة التي أوكلها إليه الخالق ببناء السفينة وإنقاذ الحيوانات وترك كل ما تبقى من البشر الخاطئين لملاقاة حتفهم. لكنّه يتساءل أيضاً عن سبب اختياره وعائلته دون غيرهم للنجاة من الطوفان وإذا كانوا هم أنفسهم بلا خطيئة. التساؤل يفضي به في النهاية إلى أنهم ليسوا بمختلفين عن البقية. لذا عليهم أن يموتوا كغيرهم بعد تنفيذ المهمة كي يختفي الجنس البشري عن وجه الأرض. يفسر نوح في أحد المشاهد سبب اختيار الخالق له: «لقد اختارني فقط لأنني أستطيع تنفيذ هذه المهمة». من ناحية أخرى، تتمسّك زوجة نوح وأولاده بحق استمرارية الحياة، فيما يطالب طوبال قايين بحكم الإنسان على الأرض، خصوصاً أنّ الله خلقه على صورته كما يقول لـ«حام» ابن نوح في مشهد من الفيلم.
الصراع الأساسي الذي يتناوله أرونوفسكي هو في ذات الإنسان نفسه المتنازع بين دماره الذاتي وتمسّكه بالحياة واستمرارية الخلق كما غريزة الموت التي يتحدث عنها فرويد الموجودة في كل منّا بالتوازي مع غريزة الحياة. كذلك، فإن صفح النبي «نوح» عن حفيدتيه الصغيرتين في النهاية وتراجعه عن قتلهما هو صفح الإنسان أيضاً عن نفسه وانتصار لنزعة الحياة.

Noah: صالات «غراند سينما» (01/209109)، «أمبير» (1269)





تحية إلى دار الفتوى والرقابة

لبنان ما زال بخير رغم كل شيء. هذا ما يشعر به المشاهد مع دخوله الصالات لمشاهدة «نوح». بعد جدل في العالم العربي حول العمل، والتخوف من انتقال العدوى الانحطاطية الى لبنان، يُسجّل للمؤسسة الدينية ترفعها عن أي ضغط على جهاز الرقابة، رغم تضارب سيناريو الفيلم مع الرواية الدينية. هكذا، اكتفت الرقابة في مبادرة حضارية يمكن التأسيس عليها، بوضع تنبيه للمشاهدين، يلفت إلى أنّ العمل من مخيلة مؤلفه ولا علاقة له بالعقيدة الاسلامية. بادرة أمل باستعادة لبنان دوره كمنارة للحريات والإبداع تحت سقف التعددية واحترام الاختلاف، والتمييز بين العمل المتخيل والواقع. إنّها تحية الى المواطن وحقه في أن يختار ويصدر حكمه من دون وصي على وعيه وحريته.
«ثقافة وناس»