«الاحتلال الطويل خلقَ منا أجيالاً عليها أن تحبّ الحبيب المجهول، النائي، العسير، المحاط بالحراسة، وبالأسوار، وبالرؤوس النووية، وبالرعب الأملس، الاحتلال الطويل استطاع أن يحولنا من أبناء فلسطين إلى أبناء فكرة فلسطين. إنني كشاعر لم أكن مُقنعاً أمام نفسي إلا عندما اكتشفت بهتان المجرّد والمطلق، واكتشفت دقّة المجسّد وصدق الحواسّ الخمس، ونعمة حاسّة العين تحديداً». هذا المشهد المشحون من «رأيت رام الله» الذي يروي قصة العودة بعد سنوات النفي الطويلة إلى رام الله في الضفة الغربية عام ١٩٩٦، يكاد يكون سيرة مكثّفة للشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي (1944 ـــ 2021) المولود في دير غسانة قرب رام الله قبل سنوات قليلة من النكبة. ذاكرة الطفل تطفح بلكنات تختلف عن لكنة «البراغثة» الذين كانوا يملأون القرية والجوار: أصوات غرباء يطلبون الطعام أو سقف خيمة يقيهم الشمس والمطر؛ لم يكن هؤلاء سوى اللاجئين الذين دمّرت العصابات الصهيونية بيوتهم وقراهم ومدنهم الساحلية عام ١٩٤٨. «كنت أسأل والدي لماذا نسميهم لاجئين، بينما هم فلسطينيون مثلنا؟ إجابات بلا نهاية على أسئلة بلا نهاية سبّبها ظهورهم المفاجئ في قريتنا، ولم أعرف معنى كلمة لاجئ إلا عند سقوط دير غسانة وكل الجزء الشرقي من فلسطين عام ١٩٦٧». عند سماع أخبار النكسة على مقاعد الدراسة من «صوت العرب» في القاهرة، عرف مريد البرغوثي الشاب أنه لن «يعبر الجسر» الذي يفصل ما بين الضفة الغربية والأردن ثانية. كانت بذور الشعر قد بدأت بالتشكّل عند زيارة فدوى طوقان للعائلة، إذ أهدت فدوى للأم التي حُرمت من فرصة تعليمها بسبب التقاليد القروية البالية كتابها «رحلة جبلية، رحلة صعبة». لم يكن لرافد اللغة عند مريد الشاب إلا أن يلتقي برافد الأرض السليبة، ليشكّلا عصب الشعر والحساسية تجاه الكلمات: «لا يوجد ما يوضح تلويث اللغة أكثر مما يوضحه مصطلح الضفة الغربية... ضفة ماذا، وغربية بالنسبة إلى أي شرق؟ الإشارة هنا إلى نهر الأردن، نحن ضفة النهر لا ضفة فلسطين، معركة اللغة تساوي معركة الأرض... تدمير الأولى يعني تدمير الثانية».
حمل مريد البرغوثي هذا الرفض للّغة الملوّثة إلى القاهرة، التي انتقل إليها عام ١٩٦٣ بعد إقامة قصيرة في عمان لدراسة اللغة الإنكليزية وآدابها، ليلتقي على درج الجامعة حيث كان يلقي بالقصائد حول فلسطين والفدائيين بنصفه الآخر، الروائية والناقدة والأكاديمية المصرية رضوى عاشور التي كتب لها يوماً: «على نَولها/في مساء البلاد/تحاول رضوى نسيجاً/ وفي بالها كل لونٍ بهيجٍ/ وفي بالها أمةٌ طال فيها الحداد.../تريد نسيجاً لهذا العراء الفسيح/وترسم سيفاً بكفّ المسيح/وجلجلة من عناد». تزوج مريد من رضوى رغم معارضة أهلها الشديدة وكتب: «في ظهيرة يوم 22 يوليو ( تموز ) سنة 1970 أصبحنا عائلة، وضحكتها صارت بيتي». لكنّ نُذر الجلجلة التي تنبأ بها الشاعر كانت تلوح في الأفق: لم تطل إقامة مريد في القاهرة، إذ أن مخابرات أنور السادات بعد فترة صغيرة من اتفاقية كامب ديفيد لفّقت للبرغوثي تهمة تعكير الأمن القومي: «في القاهرة، صبيحة ذلك العيد التاريخي الكئيب، كانوا ستة من المخبرين، عندما سقط ذلك القماط الذي ما زال مبلولاً من أقمطة تميم وخرجت لجلبه، رأيتهم. قلت لرضوى جاؤوا». سبعة عشر عاماً من الترحال، من بغداد فبيروت إلى بودابست التي عمل فيها مستشاراً في مكتب منظمة التحرير، فترة خصبة بالكتابة التي يصفها إدوارد سعيد بأنها «أرفع أشكال كتابة التجربة الوجودية للشتات الفلسطيني نمتلكها الآن».
حمّل أشعاره كل المرارة التي تجرّعها الفلسطينيون من النكبة حتى اتفاقيات أوسلو والتطبيع

إنها فترة المنافي والفنادق، حيث «الفندق يعطيك شيئاً من نكهة الخلودات المؤقتة»، وحيث يعطينا مريد البرغوثي تعريفاً فريداً للشتات: «لم أستطع تكوين مكتبة منزلية متصلة أبداً»، وفي الفندق حيث لا يكون المرء مسؤولاً عن النباتات، تفرّغ المصاب «بالرحيل البدوي» لرعاية الكلمات. مسيرة شعرية انطلقت من مجموعته الأولى «الطوفان وإعادة التكوين» (1972) وصولاً إلى الأخيرة «استيقِظ كي ترى الحلم» (2018)، وبينهما عشرة دواوين، منها «فلسطيني في الشمس» (1974) و«طال الشتات» (1987)، و«زهر الرمان» (2000) و كتابا سيرة «ولدت هناك ولدت هنا» (2009) و«رأيت رام الله» (1997). لم تغب فلسطين يوماً عن مريد الذي حمّل أشعاره كل المرارة التي تجرّعها الفلسطينيون من النكبة حتى اتفاقيات أوسلو والتطبيع الذي بدأ عام ١٩٩٣، حين رأى أن الأرض المحتلة قد اتخذت اسماً جديداً وشعباً جديداً وهوية تنكر فلسطين جملة وتفصيلاً. «أنا أكبر من إسرائيل بأربع سنوات، والمؤكد أنني سأموت قبل تحرير بلادي من الاحتلال الإسرائيلي. عمري الذي عشت معظمه في المنافي تركني محمّلاً بغربة لا شفاء منها، وذاكرة لا يمكن أن يوقفها شيء. عندما سُمح لي بزيارة فلسطين، بعد ثلاثين سنة من العيش في أماكن الآخرين، لم أكن بحاجة إلى معايشة أماكن الماضي، بل ماضي الأماكن». رحل العاشق الذي عاش «هناك» وقلبه «هنا» بين المنفى والعودة، لينام إلى جوار رضوى التي كتب عند رحيلها، وفي إحالة إلى الجملة الأخيرة من «ثلاثية غرناطة»: «الآن لا وحشة في قبر رضوى».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا