I ـــ البوّابة الغربية، للجرح المفتوح، المسمَّى ساحة الشهداء
الثلاثاء في الخامس من كانون الثاني (يناير) 2021. جولتي في قلب بيروت، خمسة أشهر بعد الانفجار النكبة، لم تكتمل بعد. يحد مبنى بلدية بيروت، شرقاً، شارع فوش. الشارع متعامد مع شارع ويغان. المباني في واجهتيه، منتظمة أنيقة. المتاجر في الواجهتين، متلاصقة، واجهاتها زجاجية. تتنوَّع السلع خلف الواجهات. في كل متجر، شخصان لا أكثر. المحاسب/ المحاسبة، والبائع/ البائعة. لا فضوليّين على الأرصفة أمام الواجهات. لا زوَّار داخل المتاجر. لا أحد يزور الأمكنة «للفرجة» كما يقولون، ولا أحد يشتري. مال كثير دفع للترميم بعد الانفجار. ولكن!؟

ولكن ما العمل؟ إذا كثرت البطالة، وندر المال بيد الناس!؟ فعمَّت الحاجة، واستوطن العوز البيوت!؟ والشارع فخم، والسلع جميلة، وغالية الثمن. و«الفرجة» تزيد الشعور بالغبن والحرمان!؟
في وسط الشارع فاصل قليل الارتفاع. أعمدة الإنارة المغروسة فيه، مزخرَفة، متناغمة مع عمارة الشارع وزخرُفها. اجتياز الشارع إلى الواجهة المقابلة، سهلٌ وآمن، لأن حركة السيارات فيه شبه معدومة. في هذه الواجهة جامع مهيب. المئذنة متوسطة الارتفاع. تعلو بخفر المباني التي تحوطها. باب الجامع. الزخرف الذي يحوطه. القبة الخفرة. الكتلة المبنية المتناسقة. الألوان ومواد البناء. يقول المؤرخ عبد اللطيف فاخوري إنه في هذه الأمكنة بني أول جامع في بيروت القديمة، المدينة المربَّعة كما سمّيت، والمسوَّرة، وهو جامع البحر. وربما كان الجامع الحالي هو الكتابة الراهنة، لجامع البحر العتيق.
قبالة شارع فوش، أي في الواجهة الجنوبية لشارع ويغان، وبمحاذاة جامع الأمير عسَّاف، شارع يوصلُ إلى ساحة النجمة. الشارع مقفل بحاجز صلب، وأمامه طبقات من الأسلاك الشائكة المتداخلة. يتوّج الصورة، عند الحاجز، مجموعة من قوى الأمن الداخلي، تعزّز الحراسة، وتمنع أي فضولي من الدخول. تقولُ لهم إنك معمار باحث، وتريد دراسة الوضع المديني للساحة. يجيبك المسؤول الأمني: الدخول ممنوع. تقول لهم ثانية، إنك تريد، كباحث في المدينة والعمارة، أن تصوّر واقع المباني التاريخية، التي تحوط الساحة، بعد إقفالها، يأتيك رفض المسؤول الأمني مكرراً. يبدو أن سبب هذا الرفض هو كون الشارع البوابة الوحيدة إلى ساحة النجمة راهناً، يدخلها النوَّاب فقط. وحدهم النواب، والموظفون العاملون في دوائر المجلس، هم الذين يعبرون البوابة.

مات فندق «لو غراي» ودفن، وكفنه حديد ملحوم صدئ

من مكان هذا التقاطع المزدوج والمتقابل مع شارع ويغان، تبدأ البوابة الغربية التي توصلك إلى هذا الجرح العميق، المفتوح في جسد المدينة منذ ربع قرن، والمسمى ساحة الشهداء، أو ربما أفضل من ذلك، ساحة البرج. البوابة هذه، هي «عنقها»، عنق الساحة، إذا صحَّت المقارنة مع عنق الزجاجة. البوابة العنق مرسومة بوضوح، محدَّدة من الجانبين. شمال العنق، نصب سمير قصير، الأسود، الجالس، أمام حوض طاف ماؤه. الحوض أسود أرضاً وجدراناً، والماء يتزحلق من الحوض على جدرانه، ومنها إلى قناة تزنّره. ثم يعاد ضخّها مجدداً إلى الحوض، في حركة مستدامة للمياه. بعد الحوض، التفافة مبنى جريدة «النهار». بعد خمسة أشهر، رمّم المبنى في أجزائه الرئيسة. أما الالتفافة موضوعنا، فقد رمّمت على عجل. ستائر من النيلون ثبّتت على قواطع خشبيّة، إنها معالجة مؤقّتة.
جنوب العنق، يرسمه بكامله، فندق «لوغراي». في الجولة الثانية في قلب بيروت في 9 آب (أغسطس) 2020، كتبت أنّ الانفجار النكبة في 4 آب 2020، قد مزَّق فندق «لوغراي»، دمّر غلافه وكل مداخله، واقتلع تجهيزات المقهى – المطعم فيه، وحطَّم واجهتيه الشرقية والشمالية: الزجاج، والألومينيوم، والأسقف المعلقة، وأجهزة الإنارة، وأقنية التهوئة والتكييف، والطاولات، والكراسي، والستائر، وأحواض الزهور، والستائر الخارجية، حول المبنى، وعند مداخله. الحطام والركام الناتج عن هذه الغزوة طمر الأرصفة. الركام في المدخل الرئيس. الركام في المطعم – المقهى.
طُمِرتْ المجالات الأنيقة، الجميلة المميَّزة، وغادرتها كل مظاهر الحياة. ماتت. الموت أكيد في أجزاء من الفندق. وفي أجزائه الأخرى، غيبوبة طويلة. بعد خمسة أشهر، في جولتي في قلب بيروت، في الخامس من كانون الثاني (يناير) 2021، مشهد المطعم – المقهى في الفندق، ومداخله، مختلف عما كان عليه في 9 آب 2020. دفن الفندق الميت، خلف صفائح الحديد السميك والملحوم. زنّرت صفائح الحديد واجهتي الفندق؛ الشرقيَّة حيث أحد مداخل الفندق، والشماليّة حيث المدخل الرئيس وواجهة المطعم ــ المقهى، والتفَّت على جزء محدود من واجهته الغربية. صفائح عالية من الحديد الصلب دفنت الطابق الأرضي والميزانين، وصولاً إلى الطابق الأول. لا أثر في الحديد الملتف لأي ثقب يوصل إلى داخل المبنى. فتَّشت عبثاً عن هذه الفتحة الثقب، لكنني لم أجدها. لم يعمد أصحاب الفندق الميت إلى طلي الحديد باللون الأسود. وحده الصدأ حاضر هنا بقوة. الصدأ، بقماشته المعروفة، وبلونه، يلتف حول واجهة الفندق الميت، فيعزّز الشعور بالهجر والوحشة. عصف النكبة ضرب هنا بقوة. ونتائجه مرئيَّة بعد خمسة أشهر، فندقاً ميتاً، وحديداً صدئاً، مهجوراً، موحشاً.

II ــــ موت لا عودة منه
انتهى المسار في العنق. نحن في البوابة. أمامنا بحر من السيارات، يمتدُّ بلا حدود. النسيج المبنيُّ في شرق المجال، بَعيد، بعيد. ولا علاقة له بالساحة التي نقصدها.
أين الساحة؟ أين ساحة البرج ساحة الشهداء!؟ أصِرُّ في تساؤلي بحثاً عن ساحة واضحة، بنسيج مبنيّ يحدّدها من الجهات الأربع. كما يحدّد «كاميليوسيت» الساحة. وكما عرفناها وألفناها، وتسامرنا فيها، وتظاهرنا فيها، وسهرنا فيها، وانتظرنا فيها صدور الصحف عند الفجر، يفلشها الموزّعون على أرصفتها. كانت الحرب الأهلية قد حوَّلت الساحة إلى خطّ التماس الرئيس، بين ما سمّي في حينه، بيروت الشرقية وبيروت الغربية، والممتدّ بامتداد طريق الشام، وفي طرف طريق صيدا. أوقف مؤتمر الطائف الحرب. وأتى برفيق الحريري رئيساً للوزراء.
كان رفيق الحريري قد أطلق «شركة سوليدير» المعنيَّة بإعادة إعمار ما دمَّرته الحرب الأهلية في بيروت. معنيَّة كانت الشركة بإعادة إعمار المدينة، متألقّة، مزدهرة، موحَّدة لكل أبنائها.
ما يعنينا في مسألة إعادة الإعمار هذه، انطلاقاً من موضوعنا «ساحة البرج، ساحة الشهداء»، هو مقاربة شركة «سوليدير» للجزء الرئيس من مهمَّتها، وهي إعادة إعمار بيروت متألقّة، مزدهرة، موَّحدة لكل ناسها، كما سبق أن ذكرنا.
كانت ساحة البرج قبل الحرب الأهلية مكان اللقاء الرئيس لسكَّان المدينة. هي القلب النابض، يبعث الحياة في النسيج المدينيّ حوله. هي ضمانة وحدة المدينة ورمزها. هي، بانبعاثها وبولادتها الجديدة، رمز انبعاث الوطن، والشاهد الرئيس على وحدته، وعلى متانة هذه الوحدة.
وأتى «محور ساحة الشهداء»، كما سمَّاه الزميل الراحل هنري إده، المكوّن الرئيس في رؤيته، لتنظيم النسيج المديني لقلب بيروت، ولإعادة إعماره. في ساحة الشهداء، «ساحة البرج»، شركة «سوليدر» تهدم، ولا تبني.
في بداية التسعينيات، هدمت «شركة سوليدير» كل النسيج المبنيّ الذي كان يحوط الساحة، فزالت الحدود، وضاعت الساحة. ضاعت «ساحة الشهداء»، «ساحة البرج» منذ ثلاثة عقود. مقاربة شركة «سوليدير» لإعادة إعمار قلب مركز بيروت التاريخي، عنيت «ساحة الشهداء، ساحة البرج»، مقاربة رافعي شعار «إعادة ولادة بيروت»، لإعمار الساحة، تدعو إلى الاستغراب. إنها تحث على الاشمئزاز والسخرية. إنها، تدفع بقوة إلى الاستنكار الشديد. وإلى وصف المقاربة بالفعل الجرمي. إجرام بحق الساحة القلب. وإجرام بحق الوطن وشعبه.
فالخطوة الأولى للشركة العقارية ولمنظّريها كانت في تفجير سينما «ريفولي» العريقة، الحدود الشمالية للساحة، وفتح المحور بكامله على البحر، بهدم النسيج المبنيّ خلف السينما شمالاً، وفيه سوق الخضار بالجملة، وأسواق تمتد خلف مبنى بلدية بيروت القديم، لتصل إلى شارع فوش. لا شيء الآن في أفق الساحة الشمالي، إلا البحر. هدم كل شيء. جرف وأزيل، ومعه جزء من مرفأ بيروت. والبحر هو اليوم الحاضر الوحيد في الأفق.

«روش بوبوا» وشارع المعرض المقفل

في آخر هذا المجال غير المحدَّد، حفريَّات تقوم بها المديرية العامة للآثار، تمتدُّ إلى المجال قبالة مبنى جريدة «النهار»، شرقاً. إنه بحث في تاريخ بيروت.
أذكر تفجير سينما «ريفولي» بكثير من الوجع. ففي صيف العام 1965، كنت أنظّم القاعة، لاستضافة مهرجان تكريميّ للأديب الكبير عمر فاخوري. وضعت صورة كبيرة لعمر فاخوري، بجوار الباب الرئيس للسينما، وصورة كبيرة أخرى، علقتها على الستارة التي تغطي الشاشة. وزعتُ الصفوف الأمامية وفق الأعراف السائدة عندنا. المتحدّثون، والسياسيُّون وكبار الضيوف في الصفوف الأولى. ثم توزيع المستقبلين، في الممرَّات بين صفوف الجالسين. وبعض الصور لعمر فاخوري، علّقتها على الجدران. ما أزال إلى الآن كلما سرت، من شارع ويغان باتجاه بيت الكتائب، أذكر بشيء من الحنين اللقاءَات التي كنا نعقدها على الرصيف، أمام سينما «ريفولي». لقاءاتٌ شبيهة بتلك التي كرَّرناها في مدخل سينما «الكابيتول»، عند ساحة رياض الصلح.

الهدم، منهج شركة «إعادة الإعمار» في الساحة التاريخية
هُدِمَتْ الواجهة المبنيَّة في جنوب الساحة. كما هُدِمَ النسيج المبنيُّ الذي كان خلفها جنوباً. سينما «روكسي» ومقهاها الشهير. سينما دنيا، حيث غنت إديت بياف مرة. المسرح الوطنيُّ، حيث شهدنا مراراً إبداع شوشو. ساحة الدبَّاس، والمبنى الذي احتضن «دار الندوة»، حيث تعاقب على منصَّتها كثر. أذكر منهم أنطون تابت ثم عاصم سلام. ولا أنسى الحضور المميَّز للشاعر التركي المحرَّر ناظم حكمت. وقد قدَّمه في حينه الشاعر سعيد عقل، وكثر غيرهم.
ما يهمنا هو أن شركة «إعادة الإعمار» هدمت كل النسيج المبنيّ جنوب الساحة، بما فيه المركز التجاريّ الكبير «السيتي سنتر» (وقد جهّزنا فيه مكتبة كبيرة لـ«دار الفارابي»)، الواجهة الغربية لشارع بشارة الخوري، الذي كان يملكه المغترب الثري نجيب صالحة، وأبقت القبَّة الهجينة، التي رسمها الراحل جوزيف فيليب كرم. وهي في هيكلها الإنشائي، تقليديَّة. بلاطة من الخرسانة المسلّحة، تحملها أعمدة، لا تمتُّ إلى مفهوم القبة بصلة.
هدمت شركة «إعادة الإعمار» كل النسيج المبني جنوباً، حتى جادة الرئيس فؤاد شهاب. كانت الحدود الشمالية للساحة قد ضاعت بهدم سينا «ريفولي»، أكرّر، ومعها كامل النسيج المبني شمالاً. وها هي الحدود الجنوبية للساحة تضيع بدورها، بهدم كامل النسيج المديني جنوباً. شرقي الساحة، الجرف الفاقع، هو القاعدة، في عمل شركة «إعادة الإعمار». في شرقي الساحة، لجأت شركة «إعادة الإعمار» إلى الجرف الأعمى، لكل ما كان مبنياً هناك. هدمت بداية النسيج المبني في الواجهة الشرقية للساحة. مبنى «الباريزيانا»، والمبنى الرئيس والمقر المركزي للشرطة، والمكتبات، وفندق «ناسيونال»، وموقف باصات الأحدب طرابلس – بيروت – طرابلس، ومبنى بنك جعجع الذي رسمه هنري إده، والكثير غيرها من المباني.
أما خلف الواجهة شرقاً، فالجرف الممنهجُ كان التقنيَّة المعتمدة لإزالة كل ما هو مبني في الأمكنة. دخلت الآليَّات إلى الزواريب في ما كان يعرف بـ«السوق العمومية» في شارع المتنبي. دكاكين، وبيوت مغلقة، ومطاعم صغيرة، ومحترفات، ونزل متواضعة متناثرة. كان فـي شارع المتنبي هذا مطعـم متخصّص بالمشويَّات من لحـوم الغنـم الطازجـة، خاصـة، اللحم المشوي، والكفتة. وهي مأكولات اشتهرت في العهد العثماني، وفي مدينة حلب خاصة، حيث عُرِفَتْ بأسمائها التركية، «شَشْلِيك» و«شِيشْ كَباب».
حمل المطعم اسم أصحابه، «مطعم القبرصلي». كانت الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة في حينه، تشغلُ الجزء المتبقي من مبنى العازارية، في الأعوام الدراسية 1955 - 1959. أتذكر الكفتة وصحن الحمص، عند القبرصلي، عندما كنت استطيع ادّخار «ليرات قليلة»، تتيح لي هذه المتعة المحبَّبة. كنا نرتاد المطعم جماعات أحياناً، في يوم «الخطيطة» esquissé الشهريّ. من الزملاء روَّاد المطعم في حينه، الزميل الراحل خليل خوري، والزميل المهاجر أسعد رعد. دخلت الآليات إلى الزواريب، وجرفت كل شيء. الواجهة، وكل النسيج المبنيّ خلفها. ولم تتوقف، إلا عند شارع جورج حداد، الذي أعادت شركة «إعادة الإعمار» رسمه، ليمر بمحاذاة كنيسة مار مارون، وأمام بوابة المتبقي من شارع غورو، في منطقة الجميزة.
ضاعت بذلك حدود الساحة في شرقها. ونَظَّمت شركة الهدم، شركة «إعادة الإعمار – سوليدير»، المسابقات لإعادة إعمار الواجهة الشرقية للساحة. لجان تحكيم وفائزون، وجوائز وزّعت بكثرة. إلاَّ أن شيئاً لم يُبْنَ، ليعيد إلى ساحة الوطن واجهتها الشرقية، وهي حدودها، وجزءٌ مهمٌ من هويتها. وورشة البنيان المستمرة راهناً، هي في الصيفي بعيدة، بعيدة، أكرّر للضرورة.
وبقيت الواجهة الغربية للساحة. حافظت شركة الهدم في هذه الواجهة على مبنيين تاريخيَّين مهمَّين:
مبنى شركة التأمين الفرنسية الأفريقية UFA، بقبته الزرقاء المميَّزة، التي تعلو الالتفافة الأسطوانية في زاوية المبنى العليا. حافظت عليه بحجره الأصفر، وبفتحاته العمودية، وبالأقواس التي تزنّر الطابق الأرضي فيه.
ومبنى سينما الأوبرا سابقاً «فرجن» راهناً، الذي رسمه المعمار الفذ بهجت عبد النور، وبُنِي في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين.
أذكر هنا أنّ بهجت عبد النور، قد رسم أيضاً مبنى عبُّود عبد الرزاق، في منطقة باب إدريس قبالة مبنى الكبوشية. وشُيّدَ المبنى في الفترة الزمنية ذاتها. مبنى سينما «اوبرا»، «فرجن اليوم»، أكرّر، هو أحد معالم العمارة المميَّزة، التي بقيت شاهداً على روائع رسمها معماريون روَّاد، في الثلث الأول من القرن العشرين، أذكر منهم يوسف بك أفتيموس، المعمار والوزير، وألطونيان، وبهجت عبد النور، وغيرهم.
في مبنى «الأوبرا»، يصرُّ المؤلّف على بناء كتلة كل الإيحاءات فيها عمودية؛ الفتحات العمودية الشاهقة، النتوءَات المحوريَّة بتجويفها وبالفتحة العموديَّة في وسطها، الأعمدة في الزوايا المستوحاة من العمارة الفرعونية، الواجهة الرئيسة المطلَّة على الساحة، المنحوتة الممشوقة... وكل الفتحات العموديَّة في الطابق الأرضي، التي تسهم في كتابة النصّ المعماريّ في المبنى.
رسم المبنيان حدود الساحة غرباً؛ رصيف عريض، ثم جادة صاعدة بموازاته، من أسفل الساحة نحو شارع بشارة الخوري، مروراً تحت جادة الرئيس فؤاد شهاب. وبُنِيَ في أعلى الساحة، في تقاطعها مع الشارع الآتي من ساحة رياض الصلح، بُنِيَ جامع محمد الأمين. جامع مهيب، احتلَّ بكتلته الضخمة كامل المكان هناك. جامع عثمانيّ الطراز، بقببه المتعددة، وبمآذنه الأربعة المروَّسة والشاهقة الارتفاع، تعلو فوق مجمَّع العازاريَّة، برغبة رمزيّة في التأليف، بارزة.
درج مهيب، يتقدَّم الرواق عند حدود الساحة، ويوصل إلى البوَّابة الرئيسة للجامع. ضريح مؤقت أقيم شمالي الجامع في العام 2005. أقيم مكانه، الضريح الرخاميُّ الحالي. مسطَّح قليل الارتفاع، يرسم فجوة واسعة في الواجهة الغربيّة للساحة، تُشرف على المدى قبالتها. وهو حفرة مهجورة، سُمّيَتْ منذ سنوات حديقة السماح. فكتبت في حينه، «من يسامح من في حديقة السماح». لا تزال اليوم الحفرة حفرة مهجورة، ولا يزال السؤال هو السؤال، من يسامح من في حديقة السماح المزعومة.
قبالة نصب الشهداء، بين الضريح وسينما «أوبرا – فرجن»، بُنِيَ المبنى السكنيّ الفارغ إلى يومنا هذا. رسم المبنى، المعمار الياباني الشهير أراتا إيسوزاكي. وهو في طبقاته العلويَّة العشر، مؤلف من كتلتين، الكتلة المزيَّنة الصفراء، الناتئة، والكتلة الملساء البيضاء المتراجعة، وفيها ثلاث طبقات، كُتِبَتْ بلغة معماريَّة، نقيضة النص المعماريّ، الذي كتب الجزء الرئيس الناتئ في المبنى.
كتبت في جولتي الثانية في قلب بيروت في التاسع من شهر آب 2020:
«وقفت أمام مبنى إيسوزاكي الأنيق وتساءَلت، لمن شيَّد هذا المبنى؟ المتقن؟ مبنى سكنيّ من عدة طبقات، رسمه المعمار الياباني الشهير أراتا إيسوزاكي، ينتصب إلى جانب الضريح، قبالة نصب الشهداء. من هم هؤلاء الناس المميَّزون الذين سيسكنون هذا المبنى الفريد؟ من سيسكن إلى جانب الضريح؟ من سيسكن مع نصب الشهداء؟ كلّ الواجهات الزجاجية في طبقته الأرضية دمَّرها الانفجار النكبة. أكوام الزجاج تسدُّ مدخله المفتوح، شرقاً وغرباً. معظم الزجاج في الطبقات السكنية العليا محطَّمة. الزينة في الجزء الناتئ من المبنى محطَّمة بمعظمها. المبنى فارغ اليوم». وسيبقى فارغاً. لم يسكنه أحد، ولن يسكنه أحد. وجد ليُعلن الموت، لا ليدلَّ على الحياة.
ماتت الواجهة الغربية لساحة الشهداء. قتلتها رؤية إعادة بنائها. رؤية، لم يعد بالإمكان تصحيحها. رؤية أدَّت إلى موتها. والموت حالة نهائية لا عودة منها. عودة ممكنة بالقيامة، يقولون. انتظروا القيامة أقول. وموت الواجهة الغربية لساحة الشهداء – ساحة البرج، هو موت لا عودة منه. فالقيامة قد تكون ممكنة في مطارح أخرى، ولكنَّها في هذه الواجهة، مستحيلة.

III ــــ مقبرة للسيارات!
ازدحام السيارت يبتلع نصب الشهداء، و«قبضات» صبية الحراك. كتبت في جولتي الثانية في قلب بيروت، في 9 آب 2020:
الحياة شبه عادية في ساحة الشهداء، حركة السيارات منتظمة، الصاعدة نحو شارع بشارة الخوري، والنازلة من طريق الشام، نحو اسفل الساحة. عادت الخيم إلى وسط الساحة. جمهرة غفيرة عند خيمة «أبناء بيروت»، التي توزع العنب والبطيخ، وفواكه أخرى. في الخلف خيم توزع الماء البارد والسندويش، وخيم أخرى مختبئة، توزع طعاماً مطبوخاً ساخناً. لم أقترب. اكتفيت بالنظر عن بعد، وقلت إنه حراك الظهيرة الهادئ الذي سيتحول حراكاً عنيفاً، عند المساء.
اليوم، الثلاثاء، في 5 كانون الثاني 2021، خمسة أشهر بعد الانفجار النكبة، أقف على رصيف الساحة الغربي. ورائي المدخل الشرقي لفندق «لوغراي». الفندق الميت، تدفنه ألواح الحديد، الملحومة، الصدئة. الرصيف الذي أقف في أسفله عريض، صاعد نحو درج جامع محمد الأمين، في الأعلى جنوباً.
لا أحد على الرصيف في هذا اليوم الدافئ المشمس. لا أحد أمام دكاكين سينما الأوبرا – فرجن. لا أحد يسلك الدرب الضيق المؤدي إلى سيدة النورية. لا أحد أمام الضريح.
الساعة تقارب الواحدة بعد الظهر، ولا جالسين على درج الجامع، ولم أعهده أبداً بهذه الوحشة.
مبنى أراتا أيسوزاكي، على ما كان عليه دائماً. فارغ، موحش، مهجور. الجديد فيه، صفائح من الحديد السميك المطلية بلون رمادي باهت، تدفن واجهات المتاجر في الطابق الأرضي. ودفنت أيضاً مدخل المبنى العريض. لا مشاة، ولا متنزّهين. لا فضوليّين، لا أحد في الرواق، أمام باب الجامع الرئيس.
تنفلش الساحة، ساحة الشهداء – ساحة البرج أمامي، في كل الاتجاهات. تتمدَّد، تتناثر، تضيع. في أعلى الجنـوب، عند جـادة الرئيس فؤاد شهـاب، مبنى أرشيتكتونِكا المتحذلـق، مزروع بإهمال، لا يرسم حدوداً. وفي الأسفل، عند حدود الطريق إلى «بيت الكتائب»، لا حضور مؤثّراً للسور الخشبي، الذي يحمي من السقوط، في حفرة التنقيبات الجارية. الفجوة مبالغة بعرضها هناك، والمجال الفارغ مبتلع، مفزع. الجادة النازلة من طريق الشام، والتي تحوط الساحة في الشرق، لا حياة فيها. تنتظر طويلاً، لترى سيارة تعبرها أمام المباني البعيدة، ثم تلتفُّ باتجاه جادة الرئيس شارل حلو.
أذكر تفجير سينما «ريفولي»، بكثير من الوجع. ففي صيف 1965، كنت أنظّم لمهرجان تكريميّ للأديب الكبير عمر فاخوري


تنفلش الساحة أمامي إذاً، فيضيع بصري بضياعها، وتتشتَّت توجُّهات ناظِريَّ، ببعثرة أرجائها.
ولكن، من المؤكد، أن كل المجال فيها، باهت، صامت، رماديّ. لا خيم في الساحة اليوم. لقد تعب أبناء بيروت من توزيع العنب. ونضبت إمكانيات صبية الحراك، فتوقَّفوا عن توزيع السندويش، والماء البارد. لقد فكَّك الجميع خيمهم. جمعوها، حملوها، ورحلوا. وتركوا وراءَهم، قبضتين، معلَّقتين على أعمدة وسط الساحة، بالقرب من نصب الشهداء. قبضة اليد اليمنى لجورج سوروس، وقبضة اليد اليسرى، للطبقة العاملة الثورية. الجادات التي تحوط الساحة هي طرق للعبور. عبور نادر ممل.
قلب الساحة الفسيح، بين الجادتين، الشرقية والغربية، وبكل امتداده من الشمال، صعوداً إلى أقصى الجنوب، قلب الساحة هذا، هو اليوم موقف كبير للسيارات. ولنقل إنه، لازدحام السيارات فيه وتراصّها، مقبرة للسيارات. يذكّرنا بموقف سيارات مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، مع مداخله من شارع كليمنصو.
قلب الساحة الكبرى في المدينة، والتي صُنّفتْ ساحة الوطن، وموحّدة أبنائه، هي اليوم، أكرر، موقف للسيارات. المدخل إلى الموقف، في وسط الساحة، بالقرب من تمثال الشهداء. «فاليه باركينغ» في حجرته، يقبض التعرفة، ويوجّه السائق إلى المكان الذي يستطيع أن يوقف سيارته فيه.
يطفو نصب الشهداء بارتفاعه، فوق صفوف السيارات. قاعدة حجرية، فوقها منحوتة معدنية صنعها نحَّات إيطالي. تحجب السيارات العشب الأخضر المزروع عند القاعدة. تركت رصاصات الحرب الأهليَّة ثقوباً دائمة في جسد المنحوتة المعدنيَّة.

IV ـــ الخاتمة
لا شيء أضيفه في الخاتمة، سوى التكرار. التكرار المصرُّ على التأكيد، أن ساحة الشهداء، ساحة البرج، قد ضاعت. ولا إمكان في الأفق الزمني لاسترجاعها. الساحة الأولى في المدينة، ساحة البرج التاريخية، المجال الموحّد للمدينة وللوطن مع عاصمته، ساحة البرج، أصبحت جرحاً عريضاً في جسد المدينة، يمزّقها ولا يوحّدها. وقمَّة المأساة اليوم، أن هناك، في ظلمة الوضع بكل مآسيه، من يحوّل ساحة الوطن الأولى، إلى مقبرة للسيارات. فبئس المصير. وهل من موت أكثر حضوراً من موت قلب الوطن!؟

* معمار لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا