فوزي المعلوف (1889 ــ 1930) شاعرٌ أَحبَبتُه. أحببتُ جَمالَ شعره، وسُموَّ فكره، وعُلويَّ تطلُّعاته! جاءَني ذات يومٍ زائراً، وكنتُ أَقرأُ كتابه المُبدع «على بساط الريح» (1929). ومُذَّاك، لم يعُدْ يفارقُني! اليوم، بعد انقضاءِ نصف قرنٍ على قراءَتي الأُولى لذلك الكتاب، ما زالت تُعاودُني ذكرياتُ الأُويقات العابقة بالمشاعر العُلويَّة التي منحَتنْي إيَّاها أَناشيده الأَربعة عشر المُبلَّلة بأَنداءِ الفردوس العَطِر وأَشذاءِ الروح الخالد. وكانت تلفتُني فيه، قوَّةُ شاعريَّته المُتمثِّلة في جمال لغته ورقَّتها، ورفيع معانيه، وسلاسة قوافيه، وعدم وجود أَيِّ أَثرٍ للصناعة والتكلُّف في شِعره. وإذا كانت قد رافقَتْه الكآبةُ في حياته وأَدبه وشِعره، فما ذلك عن تشاؤمٍ في نفسه، وإنَّما نتيجة وعيه واقعَ الحياة المرير ورَفْضِه أَوهامها السرابيَّة الزائلة.الكتابُ ملحمةٌ شعريَّة حوى فكراً فلسفيّاً عبَّر عنه الشاعر من خلال شعره، وليس وفق الطريقة التقليديَّة المُتعارف عليها في تراث الفكر. وهو خلاصة قناعات الشاعر في أمور الحياة والموت والروح والجسد والتقمُّص، والعالَم الأَرضيّ والعوالم الأُخرى، والكائنات على اختلافها، والتي لم تَتعدَّ في الكتاب الشَّذرات الصغيرة والعناوين. وتسودُ أَناشيد الكتاب نفحةٌ إيمانيَّة فاضت من وجدان الشاعر الشابّ. ومن جميل ما ذكرهُ شقيقه الشاعر شفيق المعلوف عن ملابسات كتابته لتلك الملحمة، ودور الإلهام فيها، قولُه: «نظم فوزي قصيدته «على بساط الريح» في أَيَّام قلائل، وحَسِبَ أَوَّلاً أَن تكون قصيدةً عاديَّة ذات قافية واحدة، فبدأَها بالقطعة اللاميَّة التي وصفَ بها الطيَّارة... «وما إن بلغ فيها أَحد الأَبيات التي أَتى فيها لمحاً على ذِكر الطيور والنجوم حتَّى تفتَّقَت له تصوُّراتٌ جديدة، وتخيَّل له ما تقولُه الطيور، وتَهمسُ به النُّجوم، فنوَّع قوافي القصيدة، واندفعَ يُعالجُ الموضوع الجديد الطارئ الذي جاءَ واسطة عقد الملحمة وجوهرة تاجها. وكان يقول إنَّه لم يَنظُم في حياته قصيدةً بالسهولة التي نظمَ بها هذه؛ فقد كانت الأَفكارُ تجيئُه عفواً، واللفظُ ينقادُ له صاغراً».
في النشيدَين الأَوَّل والثاني من الكتاب، يعرِّجُ الشاعرُ لمحاً على بعض تلك الحقائق الفلسفيَّة، بما فيها العالم الثاني وجلاله، وعالم الوجود وظلمه، والروح وأَنوارها، والتقمُّص، من خلال وصفه روحَ الشاعر وموطنَه الحقيقيّ الذي هبطَ منه إلى الأَرض، وفقَ رأيه، فيقولُ في النشيد الأَوَّل: «ملِكٌ في الهواء»: «في عُبابِ الفضاءِ فوقَ غيومِهْ/ فوقَ نَسْرِهْ ونَجمَتِهْ/ موطنُ الشاعرِ المُحلِّقِ- منذُ/ البدءِ-لكنْ بروحِهِ لا بجِسمِهْ/ أَنزلَتْهُ فيه عَروسُ قوافيهِ/ بعيداً عن الوجُودِ وظُلمِه!». ثمَّ يتابعُ قائلاً في النشيد الثاني «روحُ الشاعر»: «أَيُّ رُوحٍ في بُردَةِ الشعراءْ/ رفعَتْهمْ على الهواءْ/ أَبعدَتْهُمْ عن عالَمِ الأَحياءْ/ قرَّبَتْهُمْ منَ السماءْ/ أَنتِ يا رُوحَهمْ مِنْ النُّورِ ذَرَّاتٌ/ أَضاءَتْ في الكونِ في عالَمَيْهِ/ لستِ من عالَمِ التُّرابِ وإنْ كُنتِ/ تَقمَّصتِ بالتُّرابِ عليهِ/ أَنتِ مِنْ عالَمٍ بعيدٍ عن الأَرضِ/ يَفيضُ الجلالُ عن جانبَيْهِ!». وفي نشيده الثالث «العَبد»، يُفصحُ الشاعرُ عن جانبَيْن مهمَّيْن من فكره الفلسفيّ هما الفارقُ ما بين الروح والجسد وما يخلقُه ذلك من صراعٍ مريرٍ بين الخير والشرِّ في الإنسان، والعبوديَّة التي تقيِّدُ الإنسان ما بين الحياة والموت تحت وطأَة الشرائع البشريَّة الجائرة، ورهبة القضاءِ الخفيّ، وسراب المدنيَّة الزائفة، فيقول: «بين رُوحي وبين جِسمي الأَسيرِ/ كانَ بُعْدٌ ذُقتُ مُرَّهْ!/ أَنا في الأَرضِ وهيَ فوقَ الأَثيرِ/ أَنا عَبدٌ وهيَ حُرَّهْ!/ أَنا عَبدُ الحياةِ والموتِ أَمشي/ ضِلَّةً مِنْ مُهودِها لقبُورِهْ!/ عَبدُ ما ضمَّتِ الشرائعُ مِنْ جَوْرٍ/ يَخطُّ الضعيفُ كُلَّ سُطورِهْ!/ بيَراعٍ دَمُ الضعيفِ لهُ حِبْرٌ/ ونَوْحُ المظلومِ صَوتُ صَريرِهْ!/ أَنا عَبدُ القضاءِ تَملأُ نفسي/ رَهْبةٌ مِنْ بَشيرهِ ونَذيرِهْ!/ عَبدُ عصرٍ منَ التمدُّنِ، نَلهُو/ ضِلَّةً عن لُبابهِ بقُشُورِهْ!»...
اليوم، وبعد تسعين عاماً على غيابه، يشاهدُ العابرون قرب حديقة «المنشيَّة» في مدينة زحلة، تمثالاً نصفيّاً برونزيّاً للشاعر


وفي نشيده الرابع «حُلمٌ فحقيقة»، يصفُ الشاعرُ رحلته الماورائيَّة المُتخيَّلة على مَتْن «طيَّارةٍ» هامَت به بعيداً عن عالَمه الأَرضيّ الذي جاءَه مُرغماً، على حدِّ قوله، وبُغيتُه موطنَه الأَصليّ حيث تُقيمُ روحُه، عروسُ قوافيه، هناك في رحاب عالَم الأَرواح! وقد أَجادَ في تصوير الطيَّارة أَيَّة إجادة، قائلاً: «ترتدي من دُخانها بُردةَ الليلِ/ وتُلقي عن مَنكِبَيْها الأَصيلا/ وعليها من الشَّرارِ نُجومٌ/ عَقَدَتْ حولَ رأسِها إكليلا/» وما إنْ أَوغلَتْ به في الآفاق حتَّى وقفَت له الطيورُ الجوارحُ بالمرصاد، ثائرةً في وجهه توجُّساً من شرِّه ومطامعه. وقد عبَّر بذلك عن نظرته إلى عالَم الأَرض، وعن طبيعة البشر فيه، وانجذابهم السريع إلى الشرِّ. ففي النشيدين الخامس والسادس «بين الطيور» و«رمزُ الأَلم»، يَدورُ حوارٌ بين نسرَيْن في أَمره: «إنَّ قلبي لَمُوجِسٌ منه شرّاً/ رُحْ بنا نَجتلي حَقيقةَ أَمرِه/ آدميٌّ هَذا-أَجابَ أَخوهُ-/ جاءَ يَستعمرُ الأَثيرَ بأَسرِه/ نحنُ لم نَهجُرِ البَسيطةَ إلَّا/ هَرَباً منهُ واجتناباً لشرِّه». ويُناجي الشاعرُ الطيور، مُستعطفاً إيَّاها كي ترقَّ لحاله، مُعرِّفاً إيَّاها بنفسه، وجميلِ شِعره، وجليلِ أَحزانه، وبالغاية من قدومه، مُبيِّناً لها حقيقة دوره التنويريّ في الأَرض، وتطلّعاته العُلويَّة المخالفة لتطلُّعات أَهليها، واضعاً بين يديها دليلَ براءَته مِمَّا نسبَتهُ إليه خطأً وظُلماً، مُردِّداً: «لا تَخافي يا طَيرُ ما أَنا إلَّا/ شاعرٌ تَطرَبُ الطُّيورُ لشِعرِهْ/ فَرَّ عن أَرضِهِ فِرارَكِ عنها/ مِنْ أَذى أَهلها وتَنْكيلِ دَهْرِهْ!/ حوَّلَ الأَرضَ عالَماً عُلويّاً/ قاطِراً مِن وُحُولِها سَلْسَبيلا/ ملأَ العالَمَ السماويَّ شَدْواً/ مُنزِلاً منهُ للورى إنجيلا!»
وتَهدأَ الطيور فتثورُ عليه ثائرةُ الأَنجُم بعدما عرفَتْ أَنَّه قادمٌ من أَرضٍ يَحفُّ بها الشقاء، وتحكمُها القوَّة الغاشمة، فيقول في نشيديه السابع والثامن «قُرب النجوم» و«أَوراقٌ مُتناثرة»: «وانبرَتْ نَجمةٌ لأُخرى تقولُ:/ مَنْ يَحُومُ مِنَ البعيدْ؟/ أَهْوَ نَجْمٌ مُذنَّبٌ أَم دخيلُ/ في النجوم وما يُريدْ؟/ -هوَ مخلوقُ عالَمٍ إسمُهُ الأَرضُ،/ يُغطِّي الشقاءُ كلَّ بِطاحِهْ/ عالَمٌ ما شِعارُهُ غيرَ أَنَّ الحقَّ/ للقوَّةِ التي في سِلاحِهْ» فيَنبري الشاعرُ معرِّفاً إيَّاها بنفسه، ذاكراً لها لياليه التي كان يُقضِّيها مُسمِّراً ناظرَيْه فيها، شاكياً همَّه إليها، وباكياً بين يديها، مُتوسِّلاً إليها أَن ترقَّ لحاله وتُكَفْكفَ دمُوعه، مُردِّداً: «إيهِ يا نَجمَتي، أَلَمْ تَعرِفيني/ شاعراً يُنصتُ الدُّجى لنُواحِهْ؟/ كم لَيالٍ في الروضِ أَحْيَيتُها/ أَبكي، وأَشكُو إليكِ بين أَقاحِهْ/ ساكباً في الفؤادِ مِن طَرْفِكِ/ السيَّالِ بالنُّورِ بَلْسماً لجِراحِهْ/ نَجمةَ الليلِ رحمةً فضُلوعي/ مِنْ شُجوني تَتمزَّقْ/ كَفْكِفي السَّيْلَ إنَّهُ في دُموعي/ مِنْ عينَيَّ يَتدفَّقْ».
وتُطلقُ له النجومُ حرِّيَّته، فيَبلغُ الشاعرُ محطَّ رحاله المنشود في «عالَم الأَرواح»! هناك، لا تَرى عينُه شيئاً من ذلك العالَم الخفيّ، ومع ذلك، يُبدعُ في وصفه أَيَّ إبداع، مُنشداً: «وسَرى في عوالمِ الأَرواحِ/ مِن قُدومي شِبْهَ هَمْسِ/ إذْ تنسَّمْنَ مِن خُفُوقِ جَناحي/ في السَّديمِ رِيحَ إنْسِ/ وإذا بي أَعي هنالكَ أَشياءً/ ولَمَّا حَدَّقتُ لم أَرَ شَيَّا/ يا لَهُ عالَماً هناكَ بعيداً/ قَرَّبَتْهُ عروسُ شِعري إليَّا/ فَسمِعتُ الذي تُوَشْوشُهُ الأَرواحُ/ عنِّي وما تُفكِّرُ فيَّا!». وكيف تَقبلُ الأَرواحُ في حِماها مَن يستخدمُ العِلم لهَدمِ العمران وسَفكِ الدماء ومَن هوَ في الأَصل «حفنةٌ من تُرابْ»؟!.. تحت هذا العنوان، يُنشدُ الشاعر: «قال رُوحٌ: حذارِ يا أَترابي/ أَبعدوهُ عن السماءْ/ هُوَ في الأَرضِ حَفْنةٌ مِن تُرابِ/ فأَبوهُ طينٌ وماءْ/ هوَ يَحيا للشرِّ، فالشرُّ يَحيا/ أَبداً حيثُ حَلَّ شُؤمُ رِكابِهْ/ زَجَّ بالعِلمِ في الفضاءِ طُيوراً/ مِن جَمادٍ يُديرُها بِبَنانِهْ/ ما بَناها إلاَّ لِهَدْمِ المباني/ ولِسفْكِ الدماءِ في طَيرانِهْ/ لَيتَ عُمرانَهُ تأَخَّرَ أَجيالاً/ فكلُّ الخَرابِ في عُمْرانِه!».
وتُقبِلُ روحٌ للتَّوّ، وتعطفُ على الشاعر، وترقُّ لحاله، ولم تكنْ تلك إلَّا روحهُ التي تركَ الأَرضَ باحثاً عنها، فيُغنِّيها في نشيده الثاني عشر «كفَّارةُ الشاعر»، معبِّراً فيه عن دور الآلام في تطهير النفس من شوائبها، قائلاً: «وتجلَّتْ روحٌ على القُربِ منِّي/ رمَقَتْني بلا غَضَبْ/ هيَ رُوحي جاءَتْ تُخلِّصُني مِنْ/ غَضبِ العالَمِ الفَخُورِ بشَمْسِه/ طَوَّقَتْني بكلِّ عَطْفٍ وصاحَتْ:/ أَخواتي رِفْقاً بهِ وببُؤسِهْ/ سَكنَ الأَرضَ مُرغَماً وهْوَ لَوْ/ خُيِّرَ، ما اختارَ غيرَ تُربةِ رَمْسِه/ إنَّ بينَ السريرِ والنعشِ خُطْواتٍ/ دعَوْها الوجودَ وهْيَ بعَكْسِه/ عُمرُهُ ليسَ غيرَ قَطرةِ حِبْرٍ/ ومَضتْ مِن يَراعِهِ فوقَ طِرْسِهْ/ جاءَ مِن أَرضِهِ يُفتِّشُ عنِّي/ يائساً فاخشَعوا احتراماً ليأسِهْ/ يتلاشى كالشَّمع كيْ يُعطيَ النُّورَ/ على هَيْكلِ الوجودِ وقُدْسِهْ/ غَسلَتْ عيْنُهُ بِما سَكبَتْهُ/ مِن نَدَى الدَّمعِ كلَّ أَدرانِ نَفسِهْ!».
وتُفتحُ أَبوابُ السماء أَمام الشاعر، فيقضي لحظاتٍ قصيرةً إلى جانب روحه «في خِضمٍّ من الخلود» «على بساط الريح»، ويَسمعُ من هناك صوتَ اللَّه آتياً من بعيد عبر أَناشيد العذارى، فيُردِّدُ أَجملَ الترانيم، قائلاً: «ووقَفنا بقلبِ السماءِ/ نتملَّى مِنَ القُبَلْ/ موقفٌ لا يُمثِّلُ الفكرُ أَبهى/ منهُ في نَومِهِ وفي يَقظاتِهْ/ إذْ جلَسنا على بساطٍ مِنَ السُّحْبِ/ يفوحُ الغرامُ مِن جَنباتِهْ/ وعَذارى الأَرواحِ تُنشدُ مِن بُعدٍ/ بصوتٍ، أَللَّهُ في نَبراتِهْ!».
ويهوي الشاعرُ فجأَةً من عليائه إلى الأَرض، فيغدو وحيداً فريداً والحزنُ يعتصرُ قلبَه، والدموعُ الغزيرة تنسكبُ مِدرارةً على وَجْنتَيْه، ولا مَن يؤاسيه في محنته غير يراعه! فيُنشدُه نشيدهُ الأَخير، بل قُلْ سمفونيَّته الشِعريَّة الأَخيرة التي جسَّدَ فيها الحزنَ والأَلم في الأَرض أَروعَ تجسيد، قائلاً: «وإذا بي أَهْوي إلى الأَرضِ وَحْدي/ بَعدَ حُرِّيَّتي أُكابدُ رِقَّا/ تَركَتْني رُوحي وعادَتْ لمأواها/ تَشُقُّ الشُّعاعَ في الجوِّ شَقَّا/ فرأَيتُ اليَراعَ قُربي يؤاسيني/ ويَبكي لِما لَقيتُ وأَلقى!/ يا يَراعي ما زِلتَ خَيرَ صديقٍ/ لي-منذُ امتزَجْتَ بي-وسَتبقَى/ كمْ حبيبٍ سَلا وعَهْدُكَ باقٍ/ فَهْوَ أَوفى مِن كلِّ عَهْدٍ وأَبقَى!». ومع ختام هذا النشيد تنتهي الرحلة الخياليَّة التي خاضَ الشاعرُ غِمارها، والتي عبَّر فيها أَجملَ تعبيرٍ عن فكره النيِّر ومطامحه البعيدة التي تخطَّت حدود العالَم الأَرضيّ إلى ما وراءَ العالَم المَرئيّ.
في مُذكِّراته، كتب الشاعرُ: «خُلقتُ في أَيَّار في حضن الربيع، والأَرضُ بما فيها زاهيةٌ باسمة، وأَنا فوقها مُنقبضُ النفس، مُقطَّبُ الجبين، وما أَمرَّ العُبوسَة في مُحيط الابتسامات! لذلكَ أَتمنَّى أَن يَطرحَني الدهرُ عند موتي بين اصفرار الأَوراق وذُبُول الأَزهار وبُكاءِ السماء! حينئذٍ قد أَبتسمُ عند عتبة الموت، غير آسفٍ على فراق حياةٍ قطَعتُها في خريفٍ صامتٍ ذاوٍ وتركتُها في خريفٍ صامتٍ ذاوٍ». في السابع من كانون الثاني (يناير) 1930، بينما كان الشاعرُ يراجعُ بروڤات النشيد السادس من كتابه «على بساط الريح»، وهو طريحُ الفراش في مستشفى في مدينة ريو دي جانيرو في البرازيل، وافاهُ ملاكُ الموت، واحتضنَه بين ذراعَيْه بعطفٍ وحنان، وانطلق به إلى حيث محطُّ أَمانيه. فصمتَتْ قيثارتُه الخالدة عن الإنشاد، وتلاشَتْ شمعتُه الحزينة وما عادَت لتُضيء، وانتحَب قلمُه الأَبيُّ الوفيّ، وسكبَ دموعهُ السوداءَ مِدرارةً فوق القراطيس! لقد لبَّت السماءُ نداءَ الشاعر بعدما شاهدَت عظيمَ أَحزانه، وعرفَتْ نبيلَ مطامحه، فاستدعَته إليها ليُقيمَ في ظلالها القُدسيَّة، «في خضمِّ الخلود» «على بساط الريح»، مقرِّ أَحلامه!
اليوم، وبعد تسعين عاماً على غيابه، يشاهدُ العابرون قرب حديقة «المنشيَّة» في مدينة زحلة، تمثالاً نصفيّاً برونزيّاً للشاعر فوزي المعلوف تُكلِّلُه ربَّةُ الشِّعر قائماً وسط أَشجارها الكثيفة وزهورها الجميلة، غير بعيدٍ عن منزله العائليّ الذي كان يشوقُه في غُربته. وكانت الجالية اللبنانيَّة في مدينة سان باولو قد أَهدَته للمدينة، تكريماً له وتقديراً لعطاءَاته الجليلة... مَن يدري، فلعلَّ روحَ الشاعر تَعبُر، هي أَيضاً، مع العابرين من هناك، فتغتبطُ برؤية أَوراق الخريف الصفراء الذاوية وهي تتساقطُ فوق التمثال، وأَزهار الحديقة الذابلة التي تُعانقُ التراب من حوله، وبالإصغاءِ إلى بُكاءِ السماء!
* كاتب لبنانيّ مقيم في كندا.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا