الجدل انطلق في الأشهر الفائتة، مع إعلان متحف «أل آيه مئير للفن الإسلامي» الإسرائيلي في القدس المحتلّة عن بيع 190 قطعة إسلامية في مزادات «سوذبيز» في لندن. ولم يوقفه إلا توسّط «مؤسسة مجموعة آل ثاني» القطريّة بين المتحف الإسرائيلي ودار «سوذبيز» لإلغاء المزاد. ولعلّ غالبية التغطيات الصحافية للصفقة ظهّرت قطر كمخلّص لمجموعة الفن الإسلامي التي كان المتحف الصهيوني يعتزم بيعها. تغطيات احتفت بهذه الاتفاقيّة، كما لو أن عودة القطع إلى القدس المحتلّة ستحرّرها من قبضة المتحف الإسرائيلي الذي لا يزال يملك حق التصرّف بها!
هناك مئات السنوات المحذوفة من عمر هذه اللُّقى الإسلاميّة. ولا تشير بطاقات تعريفها إلى أكثر من تواريخها الأولى، أي الحقبات الآتية منها. حقبات تمتدّ ما بين القرن السابع والقرن التاسع عشر. بعيداً عن هذه التواريخ، تغيب السبل الطويلة، الظاهرة والمخبّأة التي أوصلتها إلى متحف «أل آيه مئير للفن الإسلامي» في القدس المحتلّة. وهي بهذا، تشترك مع معظم القطع المعروضة في المتاحف الإسرائيلية، خصوصاً تلك المتعلّقة بالجغرافيا العربيّة، بقاسم تغييب المعلومات الأساسية عنها كمن يُمعن في تجريدها من هويّتها. ما يبقى واضحاً في كلّ ذلك، هو استلاب إرث المنطقة، باستكماله تاريخاً طويلاً من السطوة الأركيولوجية الإسرائيلية، وقبلها الاستعمار البريطاني، على الداخل الفلسطيني، والدول العربية التي أسهمت حروبها الأخيرة في استباحة آثارها، ونهبها وبيعها في السوق السوداء.
خلال عمليات مسح في فلسطين من قبل «صندوق استكشاف فلسطين» البريطاني (1925)، وفيها يظهر جندي بريطاني مع شابّ فلسطيني

بدأ الجدال في الأشهر الفائتة، ما إن أعلن المتحف الإسرائيلي حينها عن بيع 190 قطعة إسلامية في مزادات «سوذبيز» في لندن. تأجّل المزاد مراراً، بسبب ضغوط من أكاديميين وناشطين إسرائيليين، لكن لم يعلن عن إلغائه رسمياً إلا بعدما توسّطت «مؤسسة مجموعة آل ثاني» القطريّة بين المتحف الإسرائيلي، ووزارة ثقافة الاحتلال، ودار «سوذبيز». إذ أعلنت المجموعة الفنية التابعة لأحد فروع عائلة آل ثاني المالكة القطرية الشهر الماضي عن قرارها بدعم المتحف الإسرائيلي، وتولّي تأمين تمويله على مدى 10 سنوات مقابل أن يمنحها المتحف قطعة فنية واحدة (إناء فضي فارسي يعود إلى القرن الحادي عشر) من المجموعة الإسلامية الثابتة كإعارة طويلة لعرضها في «فندق دو لا مارين» في باريس الذي سيُفتتح في خريف 2021، فضلاً عن تفاصيل أخرى تتضمّنها الصفقة مثل التعويض لدار «سوذبيز» عن إلغاء المزاد.
ولعلّ غالبية التغطيات الصحافية للصفقة التي تمّت أخيراً بين المتحف الإسرائيلي والمؤسّسة القطرية تُجمع على تظهير الأخيرة كمخلّص لمجموعة الفن الإسلامي التي كان المتحف الإسرائيلي يعتزم بيعها. تغطيات احتفت بهذه الاتفاقيّة، كما لو أن عودة القطع من لندن إلى القدس المحتلّة ستحرّرها من قبضة المتحف الإسرائيلي الذي لا يزال يملك حق التصرّف بها. إذا تجاوزنا الشعارات التي يرفعها المتحف، بـ «تقريب الثقافتين اليهودية والإسلاميّة، والشعبين العربي والإسرائيلي»، فإن قرار البيع الذي اتخذه المتحف قام على تلفيق لا يقلّ حجماً عن تلك الشعارات المستهلكة. إذ كان قد أشار إلى أن سبب البيع هو ضمان تمويل لأنشطته للسنوات المقبلة، في حين أن المتحف يتقاضى تمويلاً رسمياً من وزارة ثقافة الاحتلال. كذلك، أكّدت مصادر عدّة منها مدير المتحف نديم شيبان، أن قرار البيع كان مطروحاً منذ عامين على الأقل، ما يعني أن المتحف استغلّ انشغال العالم بالوباء وإجراءات الإغلاق من أجل تمريره في توقيت كهذا.
مجموعة من القطع الإسلامية التي كان متحف «أل آيه مئير للفن الإسلامي» الإسرائيلي يعتزم بيعها في مزادات «سوذبيز»

المتحف الإسرائيلي (مع مؤسّسته فيرا سالومونز ابنة جامع الساعات والعالم البريطاني الثري ديفيد سالومونز)، ودار «سوذبيز»، بالإضافة إلى إحدى العائلات الرسمية الحاكمة في قطر، تشكل ثلاثة أقطاب أساسية تختصر القوى السياسية والفنية والاستعمارية التي قامت عليها المتاحف الفنية الأولى في القرنين الثامن والتاسع عشر في أوروبا. عناصر وسلطات جاءت لترسّخ استخدام الحكومات السلطوي للثقافة من أجل فرض السيطرة الاجتماعيّة على المواطنين، كمراحل متقدّمة من عمليّات التنقيب والنهب في أراضي مستعمراتها. تُعدّ المتاحف الأوروبية، الإثنية منها تحديداً، شواهد حيّة على فترات استعمار سابقة. والآن تخوض هذه المتاحف صراعاً، وتتسابق، بفضل الضغوطات الشعبية، على تبديل سرديات وطرق عرض القطع، فيما لم يعد بإمكان هذه المتاحف التغاضي عن ضرورة إرجاع بعض مقتنياتها إلى بلدانها الأصلية، نزولاً عند مطالبات حكومات تلك البلدان.
في المقابل، تظهر الحقائق القاتمة في فلسطين. المتاحف الإسرائيلية في الأرض المحتلّة تُعدّ شاهداً على استعمار مستمرّ وراهن. متاحف قام معظمها على سرقة الآثار الفلسطينيّة (راجع الكادر)، ولُقى بلدان عربية أخرى مثل سوريا ومصر والعراق، وعرضها من دون أدلّة أو وثائق، تحت ذرائع الحفاظ على إرث المنطقة. آخر هذه المعارض، «تحف ضائعة» في «متحف بلاد كتاب المقدس» في القدس المحتلّة سنة 2019. إذ ضمّ المعرض لُقى أثرية من سوريا والعراق وفلسطين، وضعها المتحف في سياق سرديات توراتية مُسقطة مقابل إخفاء معلومات أساسيّة عنها. وقد اتّهم المعترضون على المعرض، من الإسرائيليين قبل العرب، المتحف بالحصول على تلك الآثار من اللصوص والسوق السوداء للآثار على مدى خمسين عاماً.
لُقى أثرية من سوريا والعراق وفلسطين، وضعها المتحف الإسرائيلي في سياق سرديات توراتية مُسقطة


بين مصير المزاد ومصير العودة إلى المتحف الإسرائيلي القائم، يبدو الاحتمالان متساويين. كلاهما استلاب لهذه القطع الإسلامية. صحيح أن المجموعة نجت من قبضة جامعي الأعمال الفنية من الأثرياء، إلا أنها بقيت حبيسة السرديات الإسرائيلية الاستعمارية لهذه القطع، والتي يستغلّ المتحف عرضها لخدمة بعض الشعارات الكبيرة التي تمجّد التنوّع والحوار. كما أن هذه السرقة الموصوفة، تضاف إلى خرق كبير قام به المتحف الإسرائيلي لدى الإعلان عن عمليّة البيع. تجاوز المتحف معارضة وزارة ثقافة كيان العدو. كما تجاوز قانون المتاحف الإسرائيلي الذي يشترط لدى بيع القطع الفنية، أن يقوم المتحف في المقابل، بشراء قطع أخرى وتوسيع مجموعته (وإن كانت هذه القوانين نفسها هي التي تبرّر وتشرّع نهب الآثار الفلسطينية). خطوة لم يكن متحف الفن الإسلامي في «إسرائيل» يعتزم القيام بها إطلاقاً، وفق صحيفة The Art Newspaper التي أكّدت أن المتحف إيّاه استغلّ ثغرة في قانون المتاحف الإسرائيلية، ينصّ على أحقيّة المتاحف باستخدام عائدات المبيعات بالطريقة التي تراها مناسبة لها. بدوره، رفض المدير الفلسطيني للمتحف نديم شيبان مراراً التصريح للصحف العالمية عن المزاد. على موقعه الذي يفتقر إلى معلومات أو تقنيات عرض متقدّمة للمقتنيات، يفخر المتحف، بأنه قام بتوظيف المدير الفلسطيني الوحيد عام 2014، من بين كلّ المتاحف الإسرائيلية الأخرى.

مجموعة من القطع الإسلامية التي كان متحف «أل آيه مئير للفن الإسلامي» الإسرائيلي يعتزم بيعها في مزادات «سوذبيز»

بدلاً من التأريخ المفصّل لمحتوياته، يزوّد موقع المتحف زوّاره ببعض المعلومات التقنية عن مجموعته، حول عددها، وبلدانها الأصلية. تنتمي المجموعة التي كان مقرّراً أن تدخل المزاد، إلى مجموعة أكبر يحويها «أل آيه مئير للفن الإسلامي» يُقدّر عددها بـ 4 آلاف قطعة (تحوي سجّادات ومخطوطات وأوانيَ وملابس ومقتنيات أخرى) جمعها، بطريقة غير معروفة منذ تأسيسه سنة 1974. وتعود هذه القطع إلى بلدان عدّة منها مصر والعراق وإيران والهند وتركيا... لتحكي بطريقة منقوصة سيرة الفن والتاريخ الإسلاميين من خلال أحد «أكبر المتاحف في الشرق الأوسط»، كما يسوّق المتحف لنفسه متناسياً المتاحف الإسلامية الكبرى الأخرى في تركيا وإيران وقطر وغيرها. يخيّم سؤال تحرير المتاحف من الاستعمار على العالم منذ سنوات، لكنه يظلّ في فلسطين عالقاً في مراحله الأولى. مقابل الاعتراضات «الإسرائيلية» على عملية البيع، لاقت تلك الخطوة صمتاً عربياً، رغم التساؤلات الكثيرة التي أعادها هذا المزاد إلى الواجهة، حول سرقة تاريخ المنطقة وكنزها. صمت عربي تُرجم أخيراً، احتفالاً بعودة الآثار الإسلامية لتقبع مجدّداً تحت سلطة الاحتلال ومؤسساته الثقافية.


الأركيولوجيا... واحتلال الأرض
البحث في العلاقة بين المتحف وسلطة الاحتلال، سيصلنا حتماً بالتنقيبات الإسرائيلية واستباحة الآثار الفلسطينية على مدى عقود. متاحف هي واجهات مشعّة لخرائط ومواقع أثريّة مزّقتها آلة التنقيب، والسرقات والجدران الممتدّة على الأراضي الفلسطينية. مصطلح الاستباحة وحده لا يشمل التنقيبات المباشرة. إنه يُعنى أكثر من ذلك بالتدمير الممنهج للمواقع الأثريّة الفلسطينية التي بلغت حوالى 35 ألف موقع أثري بين كهوف وآثار ومعابد وغيرها، وفق مسح إنكليزي أُجري في الثلاثينيات. يقع ثلث هذه الآثار (من حقبات متعدّدة) في الضفّة الغربية خصوصاً، التي تضرّرت بشكل هائل لدى بناء جدار الفصل الإسمنتي. تدمير لم يكن إلا محطّة واحدة من سلسلة طويلة من المحو والاستلاب، سبقتها عمليات تدمير للتراث الفلسطيني تولّاها الجيش الإسرائيلي خلال انتفاضة الأقصى سنة 2000، خصوصاً المباني التاريخية في نابلس والخليل. قبلها بعقود، أنشأ العدوّ الإسرائيلي سنة 1948 «دائرة الآثار والمتاحف الإسرائيلية» (IDAM) التي تولّت مهام قسم الآثار التابعة للاستعمار البريطاني. نُقل بعدها الحرّاس وضبّاط الشرطة إلى المواقع الأثرية في كل أنحاء البلاد. هكذا تولّى الجيش الإسرائيلي بسلطته العسكرية والدموية لاحقاً مسؤولية الآثار في فلسطين، خصوصاً بعد نكسة 1967. إذ قامت السلطات الإسرائيلية حينها بسنّ قانون الآثار في القدس، الذي يمنح «دائرة الآثار والمتاحف الإسرائيلية» (IDAM) سلطة التنقيب داخل البلدة القديمة ومحيطها، ما أدى إلى توسّع عمليات الحفر والنهب للآثار الإسلامية والعربية في القدس، بحجج البناء، فيما لم تستطع «اليونيسكو» حتى الآن إيقاف هذه العمليات الممنهجة، التي عزّزتها اتفاقية أوسلو، حين منحت الاحتلال السلطة على حوالى 7000 موقع أثري في الضفة الغربية. هذه فقط مقدّمة للانتهاك الإسرائيلي الفاضح للأراضي الفلسطينية، الذي ورث سلطة طويلة فرضتها القوى الاستعمارية السابقة والجامعات الغربية على الإرث الفلسطيني المحلي. حين بدأت تتوافد الجامعات الغربيّة مثل جامعتَي هارفارد وبنسلفانيا، إلى الأراضي الفلسطينية لإقامة الحفريات سنة 1908، كانت الأدوات والعدسات مقرّرة مسبقاً لقراءة هذا التراث من وجهات نظر دينية متطرّفة. وقد تم تمويل الحفريات حينها من قبل أبرز وجوه الحركة الصهيونية مثل جاكوب هنري شيف، المصرفي الشهير في وول ستريت، والذي كانت له المساهمة الكبرى في تغيير نظرة علماء الآثار إلى فلسطين، حيث يعود «الفضل» إليه في إطلاق علم الآثار التوراتي، باستخدامه الحفريات في فلسطين لإثبات أحقيّة اليهود بالأرض انطلاقاً من النصوص الدينية.