مقاصير زرقاء. هؤلاء هم الفنانون والفنانات. يقفزون من أنفسهم، ليتدربوا على الغرق في أنفسهم بواحدة من الإضمارات العجيبة بينهم وبين أنفسهم. لا يفون أنفسهم إلا إذا تدربوا على أن يغرقوا، لا على السباحة. تراجيديا كتراجيديا شجرة الكرز، حين تثمر وحين تفقد ثمرها، بعد أن توكل نفسها للشعراء لا للفلاحين. من يسقونها شعراً يحيي، كما الماء يحيي. رينيه ديك واحدة من شجرات الكرز المنذورة للشعر لا الماء، بعدما وجدت في الماء ما يشوّهها. متجاسرة الخروج من حفن يدها بالأحلام، مذ وجد المواطنون في الفن ما يتبادله المجروحون، لا وجع التعاريق، لا ذرات الوجع بالأرواح تتناثر بالنفس كما يتناثر الطحين لأجل العبور من المشيئة إلى المشيئة. سقاية بالشعر لا بالماء. هذا خيارها. ذلك أن الماء يشوه، يرهق العظام المرهقة مما يضمره الفنان للبنفسج لا مما يضمره البنفسج للفنان. لا أعلم، لم أرَ الفنان، إذ يموت يموت بعينين مغمضتين وبقلب مفتوح على الصفاء قطرة قطرة، حتى آخر قطرة.مذ وجدت رينيه ديك في هبوب الفنون، وجدت نفسها معرضة إلى مضايقات الحنين، حنين الآخرين إلى ارتفاع أشجار كرزهم المروية بالشعر. ذلك أن الأشجار المروية بالماء تبقى عند المضائق لا في المساحات الواسعة ولا الساحات. من يقف بها المنبوذون لكي يحتموا من الإحباط ومن الدنس، من يراه الآخر دنساً في حين أنّه في واقع الحال تفان وانتماء. قاد الأخيران السيدة ذات قَصَّةِ الوجه الكلاسيكية. قصة تقف فوق عنق من الكمال، إلى رحلة من المضايقات والأمزجة ذات النعرات الفتاكة. إذ أن المسرحيين في زمن مشورات الشك، لم يروا إلا كعظاءات عجيبة تدور على حواف أرواحها. لا مجموعات من الفدائيين، مَن وهبوا حيواتهم ضد الفوضى المسترخية والمستريحة في أنحاء البلاد. لم تعرف رينيه ديك سوى تمارين الصباح وتمارين المساء وفروض الظهيرة، منذ أن قصدت محترف منير أبو دبس في ستينيات القرن الماضي، لكي تقف على ترقوة المسرح، ما وجدته حياةً في الحياة. لا عذر لها مذ قصدت مدرسة المسرح الحديث، أول محترف في تاريخ المدينة الحديثة، لأن من يقصد المسرح في زمن القحة المسيطرة التي توصف المسرحيين بصورة «أرتيست»، يدرك بأنه اختار الفتك المخصب بالأوهام والصور المرتجلة. لا عذر ما دام يحيط نفسه بفوات الأوان بالأوان ذاته. لا عذر ما دام يعلم بأن الطنين سوف يحيطه كلما ظهر على منصة بنوع من العبث الرزين. كما لو أنه يصعد على المنصة بحراشفه لا بيديه وقدميه. لا عذر لرينيه الديك ، لأنها أرادت أن تبقى كرزة على شجرتها، كرزة وفية لدراق المسرح على شجر دراق المسرح. اختيار المسرح اختيار العشب الأكثر بللاً بالسوء بذلك الزمن، حيث تفرق ملوك المسرح وملكاته في المقاهي وهم يبحثون عن دخانهم في مداخنها.
لا تزال رينيه ديك «أرتيست» مذ ستين أو سبعين عاماً. لم تتقدم خطوة واحدة في سجلات الدولة منذ أكثر من نصف قرن. زربوها في هذا الوجع منذ بداياتها وحتى النهاية. بقيت بالوصف لا بجواره. أوجدها الوصف كوثن. لا كامرأة مكافحة من أجل خدمة المسرح، كمنصة لا كرقم دخيل.
أداء كان مكثّفاً في دور السيدة في مسرحية «الخادمتان»

إنها من جيل المؤسسين. بالمسألة هذه تمام قدرها، تمام أقدارها لأن قدر المسرحي أقدار. واحد من الأقدار هذه أن يساوى بينه وبين خادمات اللذة في الملاهي الليلية. ماتت رينيه وهي تدفع ضرائبها لوزارة المال بوصفها «أرتيست»، بوصفها امرأة تدلل على اللذائذ لا المتع. وقوف اليافعة على الأرض اليافعة أخذها إلى أن تحسب على المؤسسين، بجسدها النحيل ووجهها الملتزم بالاستمرار كوردة لا هم لها سوى أن تصالح الحدائق والحدائق. حين وجدت على منصة مهرجانات بعلبك في مسرحية «الذباب»، لم يعد المسرح صفر اليدين بوجود من وجدوا الحكمة والغفران في المسرح، من رضى خوري إلى رينيه ديك ونضال الأشقر ومادونا غازي وغيرهم وغيرهن ممن هبوا إلى كتائب المسرح لا كتائب السياسة ولا خلاءاتها. بين الطبقين يضيع طباق الخدع. حبات كمأ لا ينضجن سوى بالبرق والرعد. نلن وافر النصيب من البرق والرعد الاجتماعيين وهنّ يكافحن العلة بالأمل والهمجية بصعقات الوقوف على التدارك لا الاستعراض. لم ترخِ ذات الوجه الكلاسيكي المقصوص على أحكام الجمال والبطولة، قبضة يدها منذ حملها حمامها الزاجل إلى مدرسة المسرح ومهرجانات بعلبك. لم ترتعش خزياً، حين وجدها المجتمع في الخزي. عاملو المسرح وعاملاته، يصعدون إلى السماء القاحلة إذا صعدوا، على آلامهم المتشردة في ظلالهم المحتجزة بوجهات النظر الجاهزة، المشغولة على أن الجمع في المسرح جماع. لم تخش هذه السيدة النحيلة أن تقع في هوى السنبلة، هوى قمحها لا اقساط ركامها. قبضتها لينة غير أنها لم ترتخ وهي تهرب من الطوالع إلى الاستقصاء والعطف وفكرة أن المسرح أرض تدور حول الشمس وتهب العالم شجره. بين الشجرات شجرة كرزها وشجرة دراق المسرح. شيء محكم على شيء محكم على شيء محكم. احتمت بصبرها، احتمت بصبر عظيم وهي تفشي حضوراً، إذا أقلق البشر لم يقلق الله. ثمة كلام لم يذلل بعد في مسيرتها: تِرسة السفر مع زوجها إلى تونس وما حدث هناك. هناك، سقطت بعض أوراق الشجرة على أيام من خريف غريب. تناثرت الأفكار على الأرض كورق الشجر في الخريف. إلا أنّ أحداً ، حين حاول رفع الستار عن المرحلة هذه، لم يمنح سوى بعض الغيوم بحيث لم يستطع جمعها على بعضها، لأن الغيوم لا تجتمع إلا حين ترغب في الاجتماع. هناك، في الجهة القرناء، بعدٌ، خيالٌ، زواجٌ، فراقٌ، فرق شرط، عطف ولا عطف يصعد من منارة في غور غائر لا يشاهد إلا بالصعوبة القصوى. بدت الشجرة أنها ليست لها هناك. بيد أنها لمّا عادت بدون تساقط الألغاز من جسدها، سطّرت مسيرة أقرب إلى هدية الورق من الشجر إلى البشر، إلى العالم الواقف على هبوب ورقة. سطّرت مسيرة فوّاحة بالأدوار الصعبة. أدوار ، كل دور أمّ. دور إذا انكسر مع رينيه ديك لا يصلحه من يصلح الكسر في عادي الأوقات. لم يهبها أحد شيئاً، حين وهبت العالم دمها اللامبالي إلا بالمسرح. هذا شيء لا يوضع بين هلالين. كما لا توضع بين هلالين جرأتها بوقوفها عارية أمام طلاب معاهد الفنون. موديل تذعر أمامه الأفكار التقليدية والسلفية. هذه سيدة كتبت بالكلمات البسيطة حلولاً لمجموعات من المعاضل. لن تقطن الذعر من التعري لأجل هدف يحتم تقديم الجسد بعيداً من الشهوة، قريباً من التحسس الفريد. جسد يؤخذ بالعيون لا بالأنامل. كما أخذ جسدها على المنصات المسرحية وهو يصخب في بحثه عن الطرق المفقودة على خارطة الوطن الأولى، على أوربانيسمه أو مخططه التوجيهي الأول. هذه السيدة رسّامة من رسامي ورسامات مخطط المدينة التوجيهي الأول، حيث يقود المخطط إلى الخروج من التبديد إلى التسديد، من الفوضى إلى انتظام النظام بالرؤى لا بالعمارة. كل مشاركة في مسرحية، جلدٌ، عافية، وصول إلى حسم الهياج أمام شرع الفوضى. إننا أمام نفس لم يغمد، للوصول إلى شكل لا يرشى، هو شكل المسرح كواحد من أمداء المدينة، لا جرح من جروحها. الجائعة للمسرح بقيت تنبض على طريق المسرح. كل نبضة لا تقسم إلا على المسرحيين أنفسهم. كل نبضة نموذج بالغ التعقيد من الأحرف والجمل المتحركة والساكنة. مذّاك بدا لون «المستنقع» جميلاً. جماله من أن تؤدي الحواس أشغالها بسعادة كسعادة استنشاق الهواء. هواء رينيه ديك من جوّها المختلف عن جو غريب يتصف به مكان لم يزره أحد من قبل. جمال بشكل مفرط، خُلق بصور مثالية لأدوار ترضي العين الناشدة الكمال في مجموعة من المسرحيات: «الإزميل»، «الملك يموت»، «علماء الفيزياء»، «رملوس الكبير» (إخراج شكيب خوري)... ثم إنها وجدت في مسرح زياد الرحباني منطقة جذابة. هكذا ، شاركت في «فيلم أميركي طويل». إلا أن نظامها الفائق في الأداء وجد مكثفاً في دور السيدة في مسرحية «الخادمتان» (إخراج جواد الأسدي مع جوليا قصار ورندا الأسمر). لعبٌ على لغة مختلفة هي لغة جينيه. حشدت الديك بالشخصية مظهراً غير مظهرها، مظهراً بدائياً، مظهراً قاسياً، خشناً، إلى قوائم من الأجناس البشرية والألوان الغامقة والطباع الهستيرية. حين سألني الأسدي عن اسم للدور، لم يظهر سوى اسم رينيه ديك، في جلسة جرت في «الكافييه دو باري». زعمت الشخصية أن بوسعها تحديد المجموعة على خشبة المسرح، وهي فعلت. ظهرت منفرة بجمال غريب، قام على دراسات وتمارين شاقّة.
نجاح منصف لم يستكمل لأن ممثلي المسرح وممثلاته لا يجدون في الأشغال التلفزيونية صلاحياتهم. هكذا ، شرع كل ما هو غير مجد يغرق رينيه ديك في اللامتغير، سوى باهتمامها بقططها، التي تذوّقت معها كل ما هو بعيد من النكوص. لم تؤاخذ القطط ولم تؤاخذها وهي تتبادل حفنات الصبر على أوضاع البلاد. ذاب الصوان بالغنج المتبادل بين المخلوقات هذه وسيدة لم تجد ملحها الأخير إلا في هذه المخلوقات. كل مخلوق قبلة، يرفع آخر المزاليج عن حياة ثرية ما أصابها الفقر إلا لدى من لا يجدون الاعتدال في الكلام على أحوال الفنانين. رينيه ديك يائسة لا شحاذة. تبعت الريح كما تبعها رفاقها ورفيقاتها، من أدركوا أن العثرات كثيرة على طريق الفن. تكبّدت ما تكبّدته وها هي وجدت قاربها للعبور من الحرب إلى المجد، من الخيال إلى الخيال. الموت حماقة. غير أنه حماقة لا اعتذار عنها. لو أستطيع أن أؤنب الحبر وهو يرثي الأصدقاء والصديقات، واحداً بعد واحد، بعدما شاهدت الله مذعوراً من أعدادهم وهم يقطرون بالموت كما يقطر الدم على جسد القتيل.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا