وُلد جودت كاظم القزويني في بغداد بتاريخ 24/3/1953، في أُسرةٍ ترجع أصولها إلى مدينة قزوين في إيران. هاجر أسلافها إلى العراق منذ قرنين تقريباً، واستـقـرّوا في المنطقة المُجاورة لمدينتَي كربلاء والحلّة. أنجبت هذه الأسرة في وطنها الجديد عدداً من أعلام «الحلّة» في الفقه والأدب، منهم والده كاظم (توفي عام 1973) الذي كان شاعراً ومؤرّخاً، وجدّه مهدي (ت: 1883) الذي كان من معارف الفقهاء ذوي المكانة.
أقام خمس سنوات في منزلٍ مُستأجَـرٍ في ضاحية بيروت الجنوبيّة

بدأ دراسته في المدارس الرسميّة في بغداد حتى نهاية المرحلة الثانوية، ثم انتسب إلى «كلية أُصول الدين» في جامعة بغداد، وتخرّج منها سنة 1975، حاملاً شهادة البكالوريوس في العلوم الإسلاميّة. وعلى الأثر غادر وطنه، الذي لم يره بعد ذلك أبداً، بسبب سياسة طاغية بغداد العنيفة تجاه كلّ الذين هم من أُصولٍ إيرانيّة مهما تكُن بعيدة. حتى الذين يحملون شهادة الجنسيّة، المَبنيّة على الجنسيّة العثمانيّة.
على الأثر، ارتحل إلى القاهرة حيث انتسب إلى قسم الشريعة الإسلاميّة في كليّة «دار العلوم»، إلى أن نال الماجستير في الدراسات الإسلاميّة على أُطروحته «الطفل والأحكام المُتعلّقة به في الفقه الإسلامي». أمضى السنوات الأربع التالية في حياةٍ قلقة، مُتنقّلاً باستمرار بين إيران وسوريا.
في سنة 1985، ارتحل إلى لندن، حيث استقـرّت جاليةٌ عراقيّةٌ واسعةٌ نشيطة، فانتسب إلى «مدرسة الدراسات الشرقيّة والأفريقيّة» في جامعتها، ليتخرّج منها سنة 1997، حاملاً دكتوراه في الدراسات الإسلاميّة، على أُطروحته «المؤسسة الدينيّة الشيعيّة ــ دراسةٌ في التطور السياسي والعلمي».
بعدها مكث في لندن مُشتغلاً بالتصنيف والتحقيق ونظم الشعر مدة أربع سنوات.
في سنة 2001، ارتحل إلى لبنان، فأقام بصفةٍ دائمةٍ مدة خمس سنوات في منزلٍ مُستأجَـرٍ في ضاحية بيروت الجنوبيّة. أثناءها توثّقـت الصّلة بيننا، فكان يزورنا في بعلبك بين الفينة والفينة ليستفيد من مكتبتنا في العمل الذي بين يديه، أو لمُناقشة بعض الإشكاليّات البحثيّة، خصوصاً في مادة كتابه العظيم «تاريخ القزويني».
حقّق ودرس ونشر 25 كتاباً لمؤلفين في موضوعاتٍ متنوّعة، لكنّ أبقاها كتابه الفريد «تاريخ القزويني»


تلك السنوات الخمس، هي المدة الوحيدة من حياته التي تمتّع فيها بحـدٍّ من الاستقرار وهناء العيش نسبيّاً، انقطعت فجأةً يوم دُمّـر منزله سنة 2006 تدميراً كاملاً بالغارات الإسرائيليّة الهائلة المُركّزة على الضاحية إجمالاً، وفيها فقدَ مجموعةً من أعماله العلميّة والأدبيّة المخطوطة التي كان يُعدّها للنشر. عاد بعدها إلى شبه التّشـرُّد، الذي وسم حياته منذ أن غادر وطنه إلى غير رجعة قبل ثلاثين سنة. غادر إلى لندن ليعود إلى لبنان. وهكذا مضت حياته أثناء السنوات الخمس عشرة التي بقيت له من العمر. يُمضي مُدداً متفاوتة هنا وهناك، إلى أن أُصيب في لندن فجأةً بمرضٍ قيل إنّه بسببٍ جرثوميّ، أدّى إلى وفاته بتاريخ 7/4/2020، ودُفـن في المقبرة الخاصة بمواطنيه في مهجرهم.
ترك القزويني ثلاثة دواوين شعر: «قصائد الزمن القديم» (القاهرة ـ 1980)، «أشعارٌ مقاتلة» (بيروت ـ 1985)، «المجموعة الشعريّة الأُولى» (بيروت ـ 1997) ومجموعةَ قصص قصيرة: «أحلام شجرة الزيتون» (بيروت ـ 2016). كما حقّق ودرس ونشر خمسةً وعشرين كتاباً لمؤلفين في موضوعاتٍ متنوّعة. لكنّ أهمّها وأبقاها كتابه الفريد «تاريخ القزويني»، في ثلاثين مجلداً . ترجم فيه لمئات الأعلام الذين عاشوا في القرن العشرين في العراق وسوريا ولبنان وإيران. أكثرُ مادة الكتاب هو من باب السيرة الذاتيّة التي مصدرها المُترجَم لهم. ومن هنا نعرف الجُهدَ الهائل الذي بذله المؤلف في تركيب مادة كتابه. إذ قضى سنوات يدور على أعلام كتابه فرداً فرداً، مُستكتباً أو مُسجّلاً عناصر حياتهم وأعمالهم، بحيث أتى الكتاب عملاً فريداً غير مسبوق. ومن هنا نعرف أنّ مؤلفه لم يكن يكفُّ عن العمل حتى أثناء سنوات تشرّده.
نختم بإيراد إحدى أجمل قصائده:
«السجون... الضباب... السجون
وحفنةٌ من الترابِ في العيون
وبارقٌ من الوجوه
يرجعُ الحلاجَ من جديد
إلى السجون
كفهُ يملأها الحديد
... يا طريد
غربتُك الممحاةُ تبعثُ الرؤى في الزمن الشريد
علَّمني الحلاجُ أنْ أكونَ بين كلِّ تائهٍ عصاة
وأنْ أكونَ بين كلِّ شفةٍ ظمأى كؤوساً
مشردٌ يضحكُ منك الليلُ والمتيه
ويُشعلُ الزمانُ عارضيك
وأنتَ تُوقدُ الحياة
تعرفُك الفلاةُ
والنجمُ في سمائهِ يهوي اليك
يا حلاجُ من تكون؟
من أكون
السجون... السجون
الزمان... المكان... الحضور... الغياب... الضباب
من تكون؟
يحضنك الزمانُ والمكانُ يشتريك
ترفضُ قيدين
وأنت تبقى اللغزَ في انكفاءة القطبين
كيف دنوت للفناء
وكيف أبعدتَ الصدى عن عالمِ الذوات
علّمني فناؤك ـ الوجود ـ كيف أحتويك
كما احتوى القديمَ روحُك الغريب
واسمع النداء... يا نداء... يا أنا
نحن روحان حللنا بدنا... بدنا... بدنا
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
أنا... أنا
تعششُ السنون في ضلوعي العتيقه
ينامُ كلُّ الجائعين في جفوني الحريقه
أسمعُ أصواتاً تصيح
أحملُها في داخلي
تقولُ إنك الغياب
وإننا في صدرك الحضور
يا حلاجُ كيف أدركُ الفناء؟
وكيف أعرفُ الوجود؟
يحملني المستنفعُ الفكريُّ للفراغ
ألتهمُ الغربةَ والأحجار
والأمل المضحك قيثار
يشربني السكون
من أكون؟»

* مؤرّخ لبناني



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا