الحطام المنظّم يملأ كل منطقة الجميزة، مشهد انفجار مرفأ بيروت وتبعاته لا يزال مهولاً، تؤجّجه إلى جانب صدى البيوت غير المأهولة، أصوات آلات التلحيم، جمع الحجارة القديمة والرخام والقناطر الخشبية. لكل عنصر في هذه المدينة، تاريخ يفوق قرناً من الزمن. رائحة العطونة المترافقة مع رطوبة البحر، تحمل خوفاً من المجهول الذي يعيشه القاطنون في محيط المرفأ. هول الكارثة، لم يبعد شبح المستثمرين الطامعين بالهدم، لطمس ذاكرة المدينة، واستبدال مبانيها بهندسة معمارية جديدة. بعد أشهر على انفجار مرفأ بيروت، أين أصبحت خطة إعادة ترميم المباني التراثية؟ من يحمي روح التراث البيروتي؟ وما ضمانة عدم توقيع رخص هدم المباني التراثية؟
الأسبوع الفائت، قام السفير الألماني لدى لبنان أندرياس كيندل، بزيارة تفقدية لأربعةِ مبانٍ تضرّرت في الجميزة جراء الانفجار. يُقدر عدد المباني المتضررة بحوالى 640 مبنى، 60 منها كانت في حالة حرجة. أُطلقت مبادرة «لبيروت»، فتعاونت اليونيسكو مع «المديرية العامة للآثار في لبنان»، وتم تحديد مجموعة ذات أولوية مؤلفة من 12 مبنى مهدداً بالانهيار وذا طابع أثري، في كل من مناطق الرميل والمدور والصيفي. بين كانون الأول (ديسمبر) 2020 وآذار (مارس) 2021، تمكنت اليونيسكو من تثبيت وتدعيم 11 مبنى منها، بعد توفير تمويل قدره 500000 يورو من قبل وزارة الخارجية الألمانية. وتشير المعلومات إلى أن لبنان لا يزال بحاجة إلى 300 مليون دولار لاستكمال عمليات ترميم المباني التراثية فقط.
خلقت التدخلات الطارئة من اليونيسكو مساحةً لإحياء التراث والحياة الثقافية والفنية في بيروت، إضافةً إلى فرص العمل للمهندسين المعماريين والمقاولين والعاملين في لبنان. إضافة إلى مبادرة «لبيروت»، خرجت مبادرة Beirut Built Heritage Rescue، كما أنشأت وزارة الثقافة Adopt A House لمساعدة المباني التراثية، من خلال العمل مع شركاء في لبنان والدول الأخرى، للمساعدة في إعادة ترميم وإعمار المباني.
لم تخسر بيروت أياً من المباني الاثني عشر التي كانت مهددة بالانهيار، ولم تتعرض للسقوط نتيجة تصدّعها وقدمها، فقد عمل القائمون على هذه المبادرة بالتعاون مع المبادرات الأخرى، للمحافظة على هذه المباني التراثية، بفضل المساهمة الألمانية والشراكة مع اليونيسكو المهتمة بالحفاظ على الثقافة والتراث.
في الجميزة

يعد ذلك خطوة في مشوار الألف ميل، إلا أنه «إذا بقي الوضع على ما هو عليه الآن لناحية التمويل، قد تأخذ عملية إعادة إحياء المباني بما فيها التراثية، حوالى عشر سنوات. لكن في حال تأمّن الدعم الدولي لإعادة إحياء التراث، فإنّ العملية قد تستغرق من سنة إلى سنة ونصف سنة، لإعادة كل شيء إلى طبيعته»، يخبرنا المرمّم المعماري رولان حداد، الذي رافقنا في الجولة على المباني التي تم تدعيمها بالهبة الألمانية. حداد هو عضو في مبادرة Beirut Built Heritage Rescue، التي تم تشكيلها في 5 آب (أغسطس) 2020، أي عقب يوم واحد من انفجار المرفأ، وتضم 50 مهندساً ومصمّماً وخبيراً معمارياً، يتعاونون مع المديرية العامة للآثار. يؤكد في حديث لـ «الأخبار» على ثقته بمديرية الآثار: «لولا ذلك، لما دخلت المساعي الألمانية على الخط»، بخاصة أن كل ما يحصل يتم تحت إشراف منظمة اليونيسكو.
بحسب حداد، فإن تحديد الحقبة الزمنية للمباني المتضررة في منطقة الجميزة، مثل «مبنى مدور، مبنى أشقر» صعب للغاية. لكنه يجزم بأن المباني هنا، ارتبط بناؤها بإنشاء مرفأ بيروت في عام 1860. حينها، بدأت الحركة العمرانية تتطور حول المرفأ نتيجة التبادل التجاري مع دول البحر الأبيض المتوسط. تطورت تشكيلات البناء وهندسة المباني، نتيجة الانفتاح الثقافي. ومع الاستعمار الفرنسي، انعكست الروح الأوروبية على عمليات البناء والعمران، مع إضافة مزيج شرقي. كل هذا التاريخ، الذي يعود إلى أكثر من قرن من الزمن، لم يكبح جماح المستثمرين الطامعين بهدم المباني، وتشييد الأبراج الإسمنتية بدلها.
تشير المعلومات إلى أن لبنان لا يزال بحاجة إلى 300 مليون دولار لاستكمال عمليات ترميم المباني التراثية فقط


تعود قصة طمع المستثمرين بهذه المباني التراثية، إلى ما قبل انفجار مرفأ بيروت. مع الانفجار، تعزّزت مساعيهم للاستيلاء على المنطقة، وتمّت مواجهة نوعين من السارقين: صغار السارقين (حديد، خشب، مقتنيات)، وكبار السارقين (متعهدون ومقاولون). يطرح حداد، علامات استفهام حول المبنى 733 الشهير، حيث ظل كلب تشيلي يبحث عن ناجين محتملين بعد شهر من الانفجار، وما رافقه من بروباغندا إعلامية. ويلفت إلى أن ما حصل، كان يمهّد ربما لهدم المبنى!
على الرغم من كل ذلك، يتبين من خلال معاينة المكان، أن هناك تطمينات من الجميع (السكان، المهندسون، الجمعيات الأهلية، المعنيون) بأن الوضع غير متفلّت. سبب هذا الاطمئنان، هو القانون 194 الذي صدر عن مجلس النواب بعد انفجار 4 آب، ويرمي إلى حماية المناطق المتضررة نتيجة الانفجار، وتحديداً الأحياء المتضررة في المناطق العقارية التالية: المرفأ، الصيفي، المدوّر والرميل، منعاً للغبن العام الذي يمكن لبعضهم استثماره في مثل هذه الظروف.
يقول محافظ بيروت مروان عبود، بينما يعاين المباني التي تم تدعيمها: «مستعد قص إيدي ولا أمضي على رخصة هدم أي بيت أثري». يشير إلى أنّ ما حصل قد يفضي إلى مجزرة بحق المباني الأثرية، لكن تم استغلال الكارثة، لفعل ما يجب فعله منذ زمن، وهو صيانتها وتدعيمها. البيوت في شارع الجميزة، تخبئ قصصاً داخلها، ومن الواجب الحفاظ عليها، بحسب عبود، خاصة بعدما تحوّلت عملية ترميمها إلى قضية رأي عام دولي.

السفير الألماني في لبنان، أندرياس كيندل خلال جولته ضمن مبادرة «لبيروت»

لكن، هل كان كافياً تجميد بيع العقارات لمدة سنتين بحسب القانون 194؟ لم يكن ذلك كافياً بالطبع، لكنه يعكس نية السلطة التشريعية في لبنان للحفاظ على هذه الأبنية، وحمايتها من المستثمرين الطامعين، وفق محافظ بيروت.
بعد مدة من الزمن، وفي ظل الصعوبات التي يعيشها لبنان على الصعد كافة، هل قد تتحول الجميزة إلى «سوليدير» جديدة؟ يلفت سركيس خوري، مدير «المديرية العامة للآثار»، لدى سؤالنا له أمام السفير الألماني إلى أنّ «الضمانة هي ما نراه على الأرض من عمليات تدعيم كي لا يهبط أي مبنى والحرص الذي نعمل عليه للحفاظ عليها»، ويؤكد أن هناك نية ليس للمستثمرين فقط بالهدم، وإنما في نفوس بعض المالكين.
أحد سكان مبنى «أشقر» السكني، الذي تم تدعيمه، يقول بأن والدته الثمانينية، تأمل في العودة إلى منزلها بعد ثلاثة أشهر، يضيف: «لم نخبرها بحقيقة طول الانتظار الذي ستعانيه». البناء متصدّع للغاية، ولا يزال يشكل خطراً في حال السكن فيه. «أربعون مليوناً دفعتها من جيبي الخاص» يقول إدوارد، بين نقل للأثاث والقيام ببعض التصليحات الضرورية، ولم نتلقَّ فلساً واحداً من الدولة اللبنانية ولا الجهات المانحة. إدوارد وغيره كثيرون، يعيشون تبعات انفجار مرفأ بيروت، الذي لم ينسحب عليهم موتاً أو فقداناً أو خسارةً فحسب، بل يرافقهم في كل لحظة شبح هدفه طمس ذاكرة تراثية جماعية، على حساب أبنية إسمنتية جديدة.


وزير الثقافة: لن أوقّع على أيّ قرار بهدم أيّ مبنى
يعلّق وزير الثقافة عباس مرتضى بأن هناك من يتربّص بتراث وتاريخ وأبنية بيروت. لذلك عمل منذ اللحظة الأولى كوزير للثقافة، على اتخاذ إجراءات سريعة لكي لا يستغل أحد هذا الظرف لشراء هذه الأبنية من ناسها وأهلها. أبرزها:
- إعادة الإعمار وفق خصائص المباني المُهدّمة ومميزاتها التراثية العمرانية.
- المتابعة اليومية للأعمال الميدانية والتنسيق المستمر ما بين وزارة الثقافة وغيرها من الجهات الرسمية المختلفة لتسهيل المهام، سيما وزارة المالية لحماية هذه العقارات من جشع سماسرة العقارات.
- إعفاء كل الهبات والمساعدات المتعلقة بإصلاح الأضرار المتأتية عن انفجار المرفأ من كلفة الرسوم والضريبة على القيمة المضافة لتشجيع الجهات المانحة على الدعم. كما لحظ المرسوم الرقم ٦٨٥٠ تاريخ ١٤ آب ٢٠٢٠.
- دعوة وزارة الثقافة المجتمع المحلي والدولي للمساعدة، مع عدم طلب أموالٍ مباشرة للقيام بأعمال التدعيم والترميم، بل طلبت المساعدة المباشرة من قبل الجهات المانحة ولكن تحت الإشراف التقني للمديرية العامة للآثار لضمان مطابقة المعايير التقنية العلمية لأعمال الترميم.
وحول سؤاله عن تكرار تجربة وزير الثقافة الأسبق غطاس خوري الذي وقّع قرارات هدم مبانٍ تراثية، أجابنا إنه «بكل شفافية ومصداقية، يمكنني التأكيد على أنني لم ولن أوقع على أي قرار بهدم أي مبنى تراثي ذي خصائص تاريخية واضحة أو أي مبنى يقع في محيط تراثي عمراني تاريخي بعيداً عن كل الحسابات أو الإغراءات أو الطلبات التي لا تتوقف، حفاظاً على تراث لبنان وقيمته التاريخية التي تميّزه».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا