بغداد | في ظل الانتخابات البرلمانية العراقية، بدا مشهد الإعلام المحلي مأزوماً ومربكاً للناخب، وخصوصاً في ظلّ التضاد بين وسائل إعلام تابعة لأحزاب وقوائم متنافسة. تحوّلت البرامج الحوارية والفواصل الإعلانية إلى محاولات لإطاحة الآخرين والتأثير في حظوظهم. وبالطبع هناك فضائيات انحدرت علناً إلى هذا المستوى، فيما فضّل ساسة ورجال أعمال يترأسون قوائم انتخابيّة معينة تأسيس وكالات أنباء. وكالات قد تختفي مع انتهاء عملية الاقتراع (أمس)، بعدما أدت دورها في النيل من الخصم.
خلال الفترة الماضية، وُلدت وكالات سرعان ما بدأت تنشر وثائق فساد عن مسؤولين وسياسيين، على أنّها «حصريّة»، لكن ما يثير الشك، هو سبب نشر هذه الوثائق في هذا التوقيت. هذه المؤسسات الجديدة لا تحظى بنسبة متابعة عالية، وبالتالي فهي محدودة التأثير، لكونها أُسّست منذ فترة قريبة، إلا أنّها بلا شك تسعى إلى الإثارة وإلى إحداث إرباك في صفوف مختلف الأفرقاء وأنصارهم.
كذلك، وجدت الكثير من الفضائيات العراقيّة في شهر نيسان (أبريل) الماضي فرصة سانحة للربح المادي، من خلال نشر إعلانات لقوائم ومرشحين، لم يخلُ بعضها من التذكير بالواقع المتردّي للأمن والسلم الاجتماعيين. وأظهرت أنّ هؤلاء المرشحين هم المخلّصون من كارثة ستحلّ على البلاد إذا لم ينجحوا في الوصول إلى البرلمان. أما الجديد في ما قدّمته بعض المحطات، فهو المزيد من التشهير تماشياً مع الجبهات التي تنتمي إليها، سواء كانت طائفية أو قومية، أو مع التجديد لرئيس مجلس الوزراء نوري المالكي لولاية ثالثة أو ضدّه.
قصّة هذه الفضائيات والوكالات، الجديدة والقديمة، يفسرها صحافيون من خلال تشبيه الوسط الإعلامي العراقي بـ«السوق التي تضجّ بالبضاعة، وأفضل زبائنها هذه الأيّام هم الساسة ممّن يدفعون مقابل خدمات صحافيّة ومعلومات مضللة للناخب العراقي». ويضيف هؤلاء أنّ «عمل البعض في وسائل الإعلام يقع ضمن «استثمار المهنة» لا بيع الذمم؛ لأنّ جميع الكتل المتنفذة تستعمل هذا الأسلوب، وإذا رفض صحافي ما الانخراط في هذه الأجواء، فهناك عشرة سيقبلون ذلك».
مرشّحون أطلقوا
وكالات أنباء تختفي مع انتهاء عملية الاقتراع
في العراق كما غيره، قلّما نظفر بوسيلة إعلامية محايدة، بما فيها القنوات الرسمية المموّلة من الشعب. وقعت الأخيرة في أخطاء مهنية خطيرة، حين شُغلت مثلاً بالرد على مقدم برنامج «استديو التاسعة» (قناة «البغدادية»)، أنور الحمداني، عندما شن حملة شرسة على «ائتلاف دولة القانون» (بزعامة رئيس الوزراء نوري المالكي). علماً بأنّ قراراً حكوميّاً قضى بمنع مواصلة «البغدادية» البثّ من بغداد. وهناك فضائيات سقطت في الفخّ الطائفي أثناء ترويجها لكتلة تمثّلها طائفيّاً، عندما أظهرت فريقين من الأطفال يلعبان في ساحة واحدة. الفريق الأقل عدداً يقول لأطفال الفريق الثاني: «لن تهزمونا». فيرد الطرف الثاني: «أنتم أقلّ عدداً»، قبل أن يأتي آخرون من الخلف لنصرة زملائهم الأقلّ عدداً!
الخطاب نفسه نجده في الصحف الحزبيّة، أو تلك التي تدعي الاستقلال برغم أنّها مموّلة حزبيّاً. ثمة مانشيتات تدعو إلى عدم انتخاب قائمة ما لأنّها مدعومة من الدولة الفلانية، من دون أن يغيب الشحن الطائفي عن الموضوع.
أمام هذا الواقع، لا بد من السؤال عن أداء وسائل الإعلام في شهر الدعاية الانتخابية. الصحافي مشرق عباس يقول لـ«الأخبار» إن «المشكلة الأساسية ليست في الانحياز، بل في طريقة إدارة العمل مهنياً. لاحظنا أنّ وسائل الإعلام الحزبيّة أقفلت أبوابها أمام منافسيها، لا بل تحوّلت إلى منبر للخطاب الأحادي». وأضاف: «لكن في مقابل الانحياز غير المهني، كان هناك انحياز مهني، لكن بنسبة أقل». إلى جانب الإعلام التقليدي، ظهرت صفحات افتراضية بين ليلة وضحاها، مثل «ما ننطيها» المعارضة للمالكي وائتلافه. اسمها مستوحى من تصريح قديم للمالكي أمام شيوخ عشائر قال فيه: «ليش هو أكو واحد يكدر يأخذها حتى ننطيها»، أي هل هناك من يستطيع أخذ السلطة حتى نعطيها. وهناك صفحات أخرى على فايسبوك وتويتر مساندة للمالكي كـ«عراق القانون»، و«البشائر»، إضافة إلى الصفحات الرسمية الخاصة بالكتل والائتلافات المتنافسة. الحرب في هذه الصفحات على أشدّها، وهي على شكل حملات منظّمة لمهاجمة الخصوم.
وبالانتقال إلى سبل استثمار الإعلام في التنافس الانتخابي، يؤكد مشرق عباس أنّ هناك ثلاثة سبل. الأوّل عبر وسائل إعلام معروفة حاولت التركيز على الترويج للأحزاب المموّلة لها، والثاني عبر وسائل إعلام بديلة، وخصوصاً المواقع الإلكترونية، حاولت نشر فضائح الخصوم والاتهامات الموجهة إليهم من دون الانشغال بدعم طرف ما على نحو مباشر. وأخيراً هناك إعلاميون ومحللون وشخصيات وهمية وحقيقية شُغلت في استثمار الـsocial media للغرضين السابقين. برغم تأثير الإعلام، إلا أنّه لا يمكن اعتباره عنصراً حاسماً في تحديد خيارات الناخب. القناعات في عراق اليوم تتحدّد وفق الانتماءات الطائفيّة والقوميّة أوّلاً، ومن ثم تأتي المصالح والاعتبارات العشائرية، وبعدها يأس الناس الذي سيدفع باتجاه التصويت لشخصيات جديدة. شخصيات لعل الإعلام «المستقل» ــ على ندرته ــ نجح في الترويج لها. هنا، يعلّق عباس بالقول إنّ الإعلام العراقي «لم يتمكن حتى اليوم من تطوير وسائل مهنية للتأثير في الرأي العام. فالأدوات التي يملكها ما زالت أقل من مستوى التجارب الأخرى في المنطقة»، مشيراً إلى أنّ ذلك «لا يمنع أنّ هناك تطوّراً ملحوظاً حصل لجهة الأداء في هذه الدورة».