لا يعرف رفيق علي أحمد أن يخرج من بيروت. يشعر كأنّه سمكة لا تقوى على العيش بعيداً عن شواطئ مدينتها المحببة. خلال مشهد جمع الممثلان اللبنانيان في مسلسل «الإخوة» (الأخبار 25/4/2014) في أبوظبي، توجّهت كارمن لبّس إلى علي أحمد بسؤال بسيط: «ماذا تعني لك بيروت؟». صمت قليلاً، ثمّ هرب من الكادر وانزوى بعيداً قبل أن يذرف دموعاً، تفصح عن قدر كبير من العاطفة التي يكتنزها تجاه بلده.
في مقهى «الروضة» البيروتي، حجز رفيق علي أحمد ركناً خاصاً به منذ عشرات السنين، وراح يداوم فيه يومياً. يكتب ويقرأ ويتأمّل البحر وينفخ دخان نرجيلته التي ترافقه أينما ذهب. أما في أبوظبي حيث يصوّر حالياً مسلسله الجديد، فسارع فور وصوله إلى البحث عن أقرب مقهى شعبي يمارس فيه عادته «السيئة» (التدخين) مرّتين يومياً على الأقل. اليوم، يتذكّر رفيق علي أحمد كيف كان يشقّ خطاه داخل المقهى البحري أيّام الشباب ليحتار في الانقسام والتنافس الثقافي الصحي الذي كانت تشهده «ست الدنيا» منذ زمن طويل.
في حديثه مع «الأخبار»، يسترجع صوراً ما زالت عالقة في خياله، قائلاً: «إلى اليمين كان يجلس الكاتب الراحل نزيه خاطر وإلى اليسار الشاعر والصحافي بول شاوول. وبمجرّد أن تلتفت نحو أيّ منهما قبل الآخر لإلقاء التحية، فهذا يعني أنّك صرت محسوباً عليه». لكن ما الذي أتى بالمسرحي والممثل اللبناني إلى مسلسل «سوب أوبرا» يصل عدد حلقاته إلى 100؟ يرد صاحب مسرحية «الجرس» بأنّه «يتفق مع الكثير من زملائه الذين يشاركون في هذا المسلسل حول أنّ التلفزيون وسيلة تسلية وترفيه في الدرجة الأولى، ولا بد من محاولة للوصول إلى معظم شرائح الجمهور في الوطن العربي بفرجة خفيفة، لكن شرط أن تحافظ على هامش بسيط من القيمة»، آملاً أن يصنّف هذا العمل «ضمن حالة أكثر غنىً وتنوّعاً».
غالبية خياراته على الشاشة الصغيرة كانت في الدراما السورية

علماً بأنّ المسلسل الذي باشرت المحطات العربية أخيراً بعرضه (يومياً 20:00 على cbc المصرية و 21:00 على قناة «أبو ظبي الأولى»)، يقدّم رفيق علي أحمد في دور «رياض»، الرجل الستيني الذي ما زال يحافظ على وسامته وبنية عضلية قوية. غير أنّ هذا الرجل يبدو شخصية ذكورية بامتياز يتردّد أمام ضغوط زوجته، إلا أنّه سيسعى في النهاية للحفاظ على أسرته التي ستتعرّض للكثير من الهزّات القوية.
في مكان آخر، لا يتردد نجم مسرحية «آخر أيّام سقراط» (1998)، بالتأكيد على أنّ المسرح «لا يطعم خبزاً»، ولا بد للممثل المسرحي من أن يتنازل في أماكن محددة لصالح التلفزيون ليتمكن من تحقيق الحد الأدنى من التوازن المادي. حتى أنّه قالها مرة في إحدى مسرحياته: «أعرف مدراء أهم سبعة مصارف في لبنان، لكن أحدهم لا يجرؤ على اتخاذ قرار بدعم عروضي المسرحية حتى نتمكن من إفساح المجال أمام الفقير للحضور في الصالة إلى جانب الغني».
هكذا، اختار علي أحمد أن يكون التلفزيون سبيلاً للرزق. غير أنّه عرف أين يذهب، فغالبية خياراته على الشاشة الصغيرة كانت في الدراما السورية بدءاً من «كُليب» في «الزير سالم» (2000)، الشخصية التي ترتبط به حتى اليوم ويناديه معجبوه باسمها، مروراً بـ«الظاهر بيبرس» (2005)، و«القعقاع ابن عمر التميمي» (2010)، وصولاً إلى «جلسات نسائية» (2011)، في مقابل دورين في الدراما البنانية في «جذور» (2013) و«الشحرورة» (2011). بعدها، دخل رفيق علي أحمد «هوليوود الشرق» في دور رئيس في مسلسل «نكذب لو قلنا ما منحبش» (2013).
«الشبح الأبيض» كما سماه بعض النقاد بعد آخر عروضه المسرحية «جرصة» بسبب ملابسه البيضاء والشيب الذي يكتسح شعره ولحيته، يتذكّر بحب كيف كان يمازحه زملاء سوريون أثناء تصوير أعمال مهمة قاسمهم بطولتها خلال فترة الوجود السوري في لبنان. تلك اللحظات تولّد فيه اليوم حنيناً إلى الشام أكثر من أي وقت مضى. كذلك، يصرّ رفيق علي أحمد على البقاء في بيروت مهما ارتفعت وتيرة الغليان والتصعيد الذي يحصل على خلفية الأزمة السورية.
في معظم أحاديثه، لا بد لابن قرية يحمر الشقيف (جنوب لبنان) من المرور على ابن بيئته وصديقه الراحل أستاذ الرياضيات محسن عليق الذي ترك فيه انطباعات قوية استثمرها لاحقاً ضمن عروضه المسرحية، خصوصاً أنّ علّيق عاش حياة خارجة عن المألوف ومليئة بالقصص المثيرة التي تتفوّق على الدراما.
المراقبة عن كثب، تقود المرء إلى اكتشاف كمّ العناء الذي يواجهه علي أحمد نتيجة الفوضى التي تحصل في أماكن تصوير «الإخوة». منذ الصباح، يستعد لبدء التصوير، لكنّه ينتظر ساعات طويلة ليُفاجأ لاحقاً بتأجيل مشاهده إلى اليوم التالي. وبينما يشق باقي زملائه طريقهم ذهاباً وإياباً من الخليج إلى مصر لتأدية أدوارهم في أعمال مختلفة، يتفرّغ هو تماماً لعمل أخذ كثيراً من وقته وجهده، إلا أنّه لن يضيف إلى تاريخه الطويل أي قيمة.




زلزال المنطقة

النتيجة المنطقية لسلسلة لقاءات مكثفة مع رفيق علي أحمد، ستكون منسجمة تماماً مع القاعدة التي تقول إن «المبدع يشبه الفن الراقي الذي يقدمه». الممثل اللبناني يبدو متصالحاً مع فنّه بطريقة لافتة. يعيش بالشكل الذي يظهر فيه على المسرح، إلى درجة يعجز مجالسيه عن كشف مزحه من جدّه. يستطيع بذكاء أن يمرّر عليهم لعبة انتمائه لأكثر من حزب وتيار سياسي، لكنّه في الحقيقة بعيد عن هذه الحسابات الضيّقة. في هذا السياق، يصف الممثل اللبناني ما يحدث في المنطقة اليوم بـ«الزلازل»، مضيفاً «لا أحد يدفع فاتورة ما يحصل في العالم العربي أكثر من الشعوب المقهورة الواقعة بين «سيخين» لا يتوانى أيّ منهما عن اجتثاث لحمها».