بعض الأفلام تترك فينا أثراً عميقاً، وبعضها الآخر ينتهي تأثيره عند عتبة الخروج من صالات السينما. لكن ثمة أفلام تدخل تاريخ الفن السابع لتقيم فيه. لا شك في أنّ «فندق بودابست الكبير» هو واحد منها. حين قدّم ويس أندرسون (1969) شريطه «مملكة سطوع القمر» قبل عامين، كان جلياً أنّ السينمائي الأميركي ماضٍ بخطى ثابتة نحو تكريس أعماله كمدرسة قائمة بحد ذاتها.
كثيرون انتقدوا اسلوبه في الكتابة والتصوير واختيار كادراته، إلا أنّه أكمل مسيرته بلا اكتراث، ليقدّم لنا اليوم ما يمكن اعتباره تحفة أعماله وجوهرتها.
نحن في مكان ما في أوروبا الوسطى (الامبراطورية النمساوية المجرية). تجري حوادث «فندف بودابست الكبير» بين الحربين العالميتين. وسط أجواء من الفانتازيا، يتحدث العمل عن السيد غوستاف (رالف فينيس)، مدير فندق أوروبي شهير يقع في جمهورية زيبروفسكا الخيالية. إنّه رجل أنيق و«داندي» يحبّ متع الحياة، ويقدّر الفنّ والجمال والشياكة والعطور والأحاديث المنمّقة، ويمارس الحبّ مع النزيلات كبيرات السن في الفندق. يرث من إحداهن لوحة نادرة وباهظة الثمن، ما يعرّضه لمطاردة عائلتها في محاولة للتخلص منه ومن صديقه العامل البسيط «زيرو» (طوني ريفولوري). يعيش الاثنان مغامرات مشوقة هرباً من القتلة.
القصة التي قال عنها اندرسون في إحدى مقابلاته إنّها مستوحاة من بيروت وقصصها التي سمعها من زوجته اللبنانية، ليست وحدها ما يمنح الفيلم أهميته، خصوصاً أنّه مركّب من عناصر مختلفة توازت في إبداعها. بداية مع التصوير والكادرات الخاصة التي تظهر المخرج مولعاً بالرياضيات الهندسية، فيمكن ملاحظة أسلوب يتكرر في اختيار زاوية الكاميرا التي تكون غالباً مباشرة وعمودية، فضلاً عن إصراره على أن تكون جميع العناصر في اللقطات منسقة ومرتبة كأنه يشتغل كل لقطة (frame) على حدة. وكذلك، نراه يعتمد إخراجاً فنياً (art direction) مميزاً للغاية كتنسيق الألوان بين خلفيات المشاهد والعناصر الأمامية فيها، والاهتمام بكل التفاصيل الجانبية داخلها، وميله نحو الألوان الحادة أيضاً لإضفاء مزيد من الحياة على المشاهد. ولا يمكن أن ننسى التقطيع المميز للمشاهد وحركة الكاميرا التي تنتقل بإيقاع فيه كثير من الموسيقى.
أما بالنسبة إلى النصّ الذي يستند إلى كتابات النمساوي شتيفان تسفايغ، فكان للمخرج أسلوبه الخاص خصوصاً أنّه كتبه بنفسه. نجده يبرع في صياغة النكتة الذكية التي تعتمد على المواقف لا على التهريج، فضلاً عن أسلوبه العبقري في اعتماد لغة بليغة وتوظيفها في الإطار الكوميدي في الوقت نفسه. تكتمل عناصر التفوق في العمل مع الموسيقى التي وضعها الكسندر ديبلا، مقدماً نحو 32 معزوفة من شأنها أن تثبت أن ترشيحه أكثر من مرة لجوائز أوسكار لم يكن مصادفة. من ناحية التمثيل، أشرك أندرسون عدداً كبيراً من الممثلين، إلى جانب فينيس وريفولوري من بينهم جود لو، وإدوارد نورتن، وبين موراي، وماثيو امارليك، وغيرهم... غير أنّ النجم الأول كان «زيرو» الذي يشي بأنه سيكون نجماً من الطراز الرفيع.
كل تلك العناصر تجعل «فندق بودابست الكبير» عملاً استثنائياً يقبض على الأنفاس حتى آخر ثانية فيه، ويؤهله ليكون أفضل أفلام هذا الموسم. إنّه عمل عذب يستعيد اندثار عالم كامل بقيمه وتقاليده ومتعه التي تتجسّد بأجمل تجلياتها في «السيد غوستاف» وكياسته. كياسة خالها مُعدية ستنقذ العالم من الفاشية والهمجية الزاحفة بمختلف أشكالها. إلا أنّ الزمن ــ بطلاً مطلقاً في الشريط ــ كفيل بابتلاع كل العوالم، تاركاً فقط أطلالاً تشي بوجودها مرةً. لن يبقى سوى إرث كاللوحة التي ورثها السيد غوستاف أو كتاب يحكي قصة «فندق بودابست الكبير» تقرأه فتاة بجانب تمثال الكاتب في أحد المدافن وسط الصقيع والثلج الذي يغطي المدينة.

The Grand Budapest Hotel: صالات «غراند سينما» (01/209109)، «أمبير» (1269)




هوس الكمال

صوَّر ويس أندرسون مشاهد فيلمه «فندق بودابست الكبير» في مركز تجاري في ألمانيا الشرقية. واشتغل المخرج الأميركي بهوس على كل لقطة في عمله، أكان ذلك إطار لوحة، أو لون جدار، أو حتى الثقب الذي أوجده السيد غوستاف للهرب من السجن الذي أُدخل إليه بعد اتّهامه بقتل إحدى النزيلات في الفندق. أما مشهد الملاحقة التي تمت على الثلج بين السيد غوستاف و«زيرو» من جهة، وأحد المافيويين العاملين لدى عائلة المرأة المقتولة التي تطارد غوستاف من جهة أخرى، فقد نفِّذت بتقنية الـ stop motion.