دمشق | لا يكفّ محمد عبد العزيز عن التفكير في سينماه. يعمل على «أفلمة» كل حدث يمرّ به أو قصّة يسمعها مستقياً من «المستنقع السوري» ما يمكن الاشتغال عليه. سينعكس ذلك بشكل جليّ على أعماله الأخيرة. السينمائي السوريّ لم يتوقّف عن تقديم الفيلم تلو الآخر منذ شريطه الأوّل «نصف ملغ نيكوتين» وصولاً إلى «حرائق البنفسج» (المؤسسة العامّة للسينما) الذي يستعد للبدء بتصويره خلال أيام، ليكون سادس أفلامه الروائية الطويلة في بلد لا يعدّ الإنتاج السينمائي الكثيف إحدى ميزاته.
لا كثير يُحكى عن «حرائق البنفسج» حالياً. يكفي أن نذكر بعض الحيثيّات: نساء في زمن الحرب، سيارة تنفجر في شارع 29 أيار وسط دمشق، نعامة تنفلت راكضةً في ساحة المرجة، فتاة تخرج من السجن وتهرب من أخيها لتختبئ في صالة سينما، حادثة سرقة وسط احتفالية موسيقية في الشارع، مدجنة...
في حديثه لـ «الأخبار»، يصف عبد العزيز «حرائق البنفسج» بأنّه «محاولة أخرى لرمي حجر في المستنقع السوري المخبول». لا غريب أن تتصدّر أسماء مثل «أم محمد» و«أبو علاء» و«أبو جعفر» قائمة ممثّلي «حرائق البنفسج». لطالما فضّل صاحب «دمشق مع حبّي» الكاستنغ غير التقليدي، حتى مع الممثّلين المعروفين (الراحل ياسين بقوش في دور عارض الأفلام الصامت في «نصف ملغ نيكوتين»). هكذا توضع شخصيات من الحياة بكل بهائها وعفويتها واختلافها أمام الكاميرا، رغم ما يتطلّبه ذلك من جهد مضاعف في إعداد الممثل «الخام» وتهيئته للوقوف أمام عدسة وائل عز الدين.
يروي العمل
مصائر نساء
في زمن الحرب
يقول عبد العزيز: «حالياً هم مجرد بالون اختبار، إذا صحّ التعبير. في المستقبل سيكونون كل الفيلم. سأستوقف أناساً في الطريق لأسألهم: هل تريدون التمثيل في فيلمي المقبل؟». الممثّلون المحترفون حاضرون أيضاً، منهم رنا ريشة، نانسي خوري، ولاء عزام، جفرا يونس، أكثم حمادة، شادي مقرش.
إذاً، يواصل محمد عبد العزيز البحث في يوميّات أهل المدينة وروّاد زواياها ودروبها. يحفر الإسفلت وينبش الطرق الترابية ويدخل أقبية المهمّشين متّجهاً نحو «سينما الشارع» أو «سينما القاع». يجول في المدينة بأساطيرها وحاراتها وشخصيّاتها الصارخة. استكشاف العالم السفلي لدمشق اليوم يبدو مغرياً، وهو ما يتضّح بشكل لافت في فيلمه «الرابعة بتوقيت الفردوس» (2014) الذي يتوقع أن تشهد «دار الأوبرا» الدمشقية عرضه الأوّل أواخر هذا الشهر. وصف الفيلم مقتضب بعكس زمنه الطويل نسبياً: مصائر سبع شخصيات تتقاطع خلال يوم واحد في المدينة التي تتأرجح بين الحياة والموت والأسطورة. نسأله عن حضور روّاد الواقعية الإيطالية والتأمل الإيراني والمكسيكي أليخاندرو غوانزاليس إيناريتو في أفلامه من خلال رصد القاع والألم والخيوط المتشابكة والمسارات المتوازية، فيرفض ذلك مبيّناً: «لم أتأثّر بالمعنى الحرفي بأيّ نمط أو اسم. أتأثّر بالصور الجانبية الهامشية. في طفولتي، حيث نشأت في بيئة الشمال، كان حضور الصور شحيحاً: الأسد الرابض على دستة ملاقط الغسيل، الفتاة ذات الابتسامة الدائمة على علبة «البوتيفور» المعدنية، والأطفال السعداء على غلاف العلكة المخصصة للفقراء. أضف إلى ذلك انطباعاتي عن ذلك المناخ المتفرّد: التفاحة التي دسّتها والدتي في وحل الحائط كتعويذة، ومقبض سكين ذبح الأغنام الخاص بزوج عمتي الأقرع، والطريق الترابية الطويلة والمتعرّجة إلى أسفل التلة حيث قبر والدي. أنجزتُ منذ سنوات نصّاً بعنوان «الكائنات التي أحرقت الجنّة». هو خليط من الذاكرة البعيدة حيث سحالي «الغمغموك» في غفلة من الإله أضرمت النار في الفردوس حسب الاسطورة القروية المتداولة في شمال سوريا. كنّا نمزّق تلك السحالي بالحجارة ونتقرّب من السماء بسحق أكبر عدد منها. وفي الليل، تتفجّر أحلامنا بالسحالي الممزّقة والضفادع المصلوبة وفراخ العصافير ذات المناقير الصفراء. الذاكرة الشخصية مجرد دافع أو محرّض لإنجاز نص ما. لم أتناولها بحرفيتها في أفلامي، في المستقبل ربّما تغريني الأوتوبيوغرافيا».
إذا كان الأمر كذلك، ماذا عن حضور النسيج السوري في أفلام المخرج ذي الأصول المتنوّعة؟ أكراد وأرمن ويهود ورهبان وشيوخ يمثلون أمامنا على الشاشة. يجيب: «إنّه مناخ خصب، وحضور هذا النسيج مستمرّ في أفلامي طالما أنّه واقع، وربّما لجذوري المختلطة بين الكردية والأرمنية والعربية. هذا الكنز متعدد الأطياف بدأ يتحلّل آنياً في ظل دوّامة العنف والتجاذب والاستقطاب الشديد الذي نعيشه اليوم. لكن، على الأرجح، سيعود ويتناغم بطريقة ما لكن ليس في المستقبل القريب».