تبدو وسائل الميديا الحديثة اليوم كفتاة أصيلة تعطي مريديها بكرم زائد وبلا حساب، كأنها تقول: يا معشر الكُتّاب، تعالوا عندي وخذوا ما شئتم من أفكار جديدة تنقلكم إلى ضفاف كتابة أخرى لم تكن في البال.وعليه، وجدنا خلال السنوات الخمس الأخيرة إصدارات عدة استخدمت الميديا الحديثة كمصنع لإنتاجها الأدبي. الروائي المصري ابراهيم عبد المجيد أفاد من المواقع الحوارية الالكترونية وكتب روايته «في كل أسبوع... يوم جمعة». الصحافي اللبناني الشاب رامي الأمين استغل الفايسبوك لينجز كتاباً عن «معشر الفسابكة» الذي وصفه بأنّه «نوع من سيرة فايسبوكية تستند إلى مجموعة من شخصيات الفايسبوك». الكاتب والمؤرخ أحمد بيضون أصدر «دفتر الفسبكة» الذي حوى بعضاً مما كتبه على حسابه الخاص على الموقع الأزرق. وأخيراً، أنجز الشاعر والصحافي اللبناني عقل العويط كتاباً اتكأ على خدمة المحادثة الصوتية (تشات) وحمل عنوان «سكايبينغ» (دار نوفل).

يختار صاحب «إنجيل شخصي» وسيلة التخاطب كتابياً عبر الـ «تشاتينغ» مع نجمته التي تضيء «سماء مفترضة تراها عيون مفترضة». يتعمّد هنا إلغاء خاصية التخاطب عن طريق الصورة، وهي الخدمة التي يوافرها الـ«سكايب». يؤكد شاعر «مقام السروة» على هذا الأمر نظراً «لأنّي لا أرى بعيني، فقد صرت أرى ما لا يرى».
بالعودة إلى الإهداء المكتوب على الكتاب، نجد «إلى عقل العويط»، زاعماً بأنّه الشخص الثاني في هذا الحوار. يعيدنا هذا الإهداء إلى المربع الأول، والسؤال حول إمكان اختلاق حياة حوارية من فراغ. هل يمكن للـ«سكايب» أن يعيد لنا حياة فائتة والعيش على ضفافها وتخيُّل أنها حدثت بالفعل؟
حوار طويل
مفتوح على
مختلف أشكال
الغرام

يعترف العويط في مكان آخر في المقدمة، أنه أحبّ تسمية «سكايبينغ» والتجربة معاً، فهي «محض نزق افتراضي متعسف». وعليه، تبدو مجرد كتابة تحاول الإفادة من التنوع الذي توافره الميديا الحديثة للدخول في أطوار كتابية متنوعة منها إمكان خلق حوار من الفراغ المحيط بحياة الشاعر، ودفعه إلى خلق فتاة تقف وراء شاشة حاسوبها «مفتوحة على غرائزها وخيالاتها، وأخاطبها وتخاطبني».
تبدو الكتابة هنا ووسط هذا المزاج العام بمثابة سعي المؤلّف إلى اقناع ذاته أنّه لا يقوم بمحاورة نفسه، بل هو حكي مع كائن ولو كان افتراضياً. من هنا، سيكون الكتاب فرصة لسرد اعترافات أو سيرة ذاتية لا يمكن قولها بشكل مجرّد وصريح، إذ لا بد من حماية أو تغليف من خلال كائن افتراضي يتخذ لنفسه موقعاً في مكان بعيد ويجلس أمام شاشة، ويقرأ ما يأتيه من اعترافات الضفة الأخرى أو الشاشة المنصوبة أمام الشاعر.
على ذكر سيرة الشاعر، لا تصنيف محدداً للكتاب، لا شيء يقول بماهيته. مجرد حوار طويل مفتوح على مختلف أشكال الغرام. هذا من ناحية المعنى، لكن لا قالب شعرياً محدداً بعينه. ترك صاحب «قراءة الظلام» الباب مفتوحاً ولم يحدد لشغله أي صفة، أو لعله محاولة للقفز فوق القوالب الشعرية والقوانين المحددة مسبقاً في سياق كتابة النص النثري والاشتغال على أدوات تتجاوز محيط السرد البحت لجرّه إلى أرضية جديدة بعيدة عن صيغة الشعرية من أساسها. أتى هذا التصرف مبنياً على الشكل الجديد الذي استند إليه في الكتابة، بعدما عجز عن إيجاد صيغة مناسبة للملمة كمية العشق المسفوحة على امتداد الحوار الطويل والمفتوح. وبفعل الرغبة الحارقة في الذهاب عميقاً في فعل الحكي، ترك الفصحى جانباً واستند على اللهجة المحكية بما تحلمه من عفوية وليونة في تفسير ما يقيم في الداخل من رغبات: «بحبّ إحكي معِك. الحكي معِك إحراج، استفزاز، تحريض، تعرية. ما بِقْدر إحكي معِك. إلى درجة بتمنّى إنّي اختفي، في حين إنّو أقصى أمنياتي إنّي كون معِك».