القاهرة | في مصر، حين يتعلّق الأمر بالإبداع، ابحث دائماً عن الظرف والتجربة لا الفرص فقط. كل يوم، يسطع نجم ويخفت آخر، ولا يبقى إلا ابن التجربة الصادقة المتجددة. لم تنضب الأرض المصرية يوماً ولم تكف عن طرح مزيد من عناصر الجمال والفن في أحلك الظروف وأكثرها نعيماً. وهنا يأتي تعريف التجربة الفنيّة في مصر التي غنّت للزرع والحصاد، للجفاف والفيضان، للربيع والشتاء، للمقاومة والتحرر.
في مشهد مبهر وتلقائي مساء «28 يناير 2011» وبعد ساعات طويلة من العنف والعنف المضاد، تدفّقت جموع المصريين إلى ميدان التحرير. بعدما ساد الهدوء الحذر أجواء الميدان، خرج شاب في منتصف العشرين قاطعاً هذا الصمت المترقب بنشيد «بلادي بلادي لكِ حبّي وفؤادي» للشيخ سيّد درويش ليتحوّل الغناء هتافاً، والهتاف ثورةً وتنجب الثورة تجربة، وتنجب التجربة محمد محسن (1981). منذ وقوفه الأول على مسرح «كليّة الهندسة» في جامعة القاهرة ليغنّي أمام زملائه، قرر أن يقدّم نفسه بعبارة «صوت من مصر». كان يرى نفسه حاملاً لرسالة هي تقديم صوت مصر الحقيقي بين كلمات أغاني سيد درويش والشيخ إمام وصوت الموسيقى المصريّة الشرقيّة التي تصاحب تلك الأغاني التي بدأ بتقديمها منذ أول تجربة غناء له.
كان يريد أن يرى الناس صورة مصر الضائعة التي سمعناها وشاهدناها في الأفلام القديمة ولم تعد موجودة قبل الثورة. كان يريد أن يخبر الناس أن مصر هي التي غنّى لها درويش وإمام، وأن ذلك الفن الراقي يجب أن يكون هو الطبيعي والسائد. لكن بعد الثورة أصبحت مصر الحقيقية على مرمى بصر الجميع، وأصبح استردادها أمراً حتمياً، وعادت لتخاطب الجميع بلسان الإنسانية، وبالتالي أصبح هو الآخر يخاطب الجميع بلسان الإنسانية، وهذا يؤكد عبارة «صوت من مصر»، فذلك الصوت يلتفت بالتفات مصر ويغنّي بكلماتها.
الطفل المجتهد الذي اعتاد أن يستذكر مواده الدراسية بعناية ويحصل على أعلى الدرجات ليصبح طالباً مميزاً وسط زملائه، اعتاد أيضاً أن يوظّف كل ظروف حياته لتخدم مشواره الذي اختار أن يبدأه ويقطع شوطاً كبيراً فيه قبل أن يتم الثلاثين. البيئة الريفية البسيطة المحافظة دينيّاً والحياة الصارمة القائمة على الاجتهاد في الدراسة والعمل والانضباط وكل تلك العوامل التي قد تنجب مسؤولاً في الدولة أو موظّفاً على كفاءة عالية أو رب أسرة مثالياً، قد صبّت في بناء قالب لفنان من نوع خاص. عما اكتسبه من بيئته ونشأته، يجيب صاحب أغنية «من زمان جداً»: «وُلدت وتربّيت في قرية أوسيم في محافظة الجيزة، وكانت البيئة متديّنة ومحافظة بالشكل المصري الذي يضع الأخلاق وحُسن التعامل في الأولوية بفطرته قبل أن يكون قاصداً تطبيق قاعدة دينيّة بالشكل الحَرفي. درست في الكُتّاب وحفظت القرآن من خلال الفِقِي الذي كان حين يجلس ليقرأ القرآن المجوّد والمرتّل على أهل القرية، كان يسمعه وينصت له ويحييه الجميع، مسلماً ومسيحيّاً، فالجمال لا ينتقي جمهوره بانتمائه ودينه». ويضيف: « أنجبت أوسيم الشيخ إمام منذ زمن، وأنجبت البيئة القروية المحافظة نفسها أم كلثوم وعبد الوهاب، وهؤلاء جميعاً نشأوا أيضاً على حفظ القرآن وتعلموا النغمات والانضباط ودقة اللفظ ومخارج الحروف من خلال تجويد وترتيل القرآن الكريم، وهذا الأمر كان طبيعياً جداً منذ زمن، أما استغلال الدين في الصراع فهو الأمر الدخيل».
حين نتحدّث عن فنان ساهمت التفاصيل السابقة من حيث البيئة والنشأة في تقديمه للناس، وجب علينا أيضاً أن نضيف إليها أننا أمام فنّان ذي نشاط سياسي في الماضي من خلال الحركة الطلّابية والأنشطة الجامعية المناهضة لنظام مبارك والتوريث ومقاومة التطبيع والاحتلال والتضامن مع الشعوب العربية من فلسطين والعراق، إلى لبنان في حربه ضد العدو الصهيوني. وحين نضيف كل ذلك، سيتضح أمامنا المزيد من تفاصيل الصورة من حيث تراكم الوَعي وتطوّره لدى شاب اتسعت دائرة رؤيته ليصل إلى العمل الميداني المباشر. وربما جاء ارتباطه بفن المقاومة لدى سيد درويش والشيخ إمام من هذه الزاوية. عن تجربة الغناء في ميدان الثورة، يعلّق محسن: «كانت شهادة ميلاد فنية وشخصية لي أن تسمعني جموع لا تعرفني من مختلف المناطق والأقاليم. كنت أنظر في عيونهم وأشعر بالإصرار والحماس وبفطرتهم الوطنية وحبهم للوطن رغم معاناتهم».
علاقة مميزة ربطته بـ «الفاجومي». حين جئنا إلى ذكر الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم (1929 ـ 2013)، بدأ محسن حديثه بجملة: «صاحب فَضل عليّ» وأضاف: «هو محرّك المياه الراكدة الذي كان بقصيدة له يشعل البلاد قبل أن يعلم أحد اسم كاتب القصيدة. قدّم «عم نجم» لفتة عظيمة وإنسانية لن أنساها. حين تحقق حلمي بالمشاركة في الغناء في «مهرجان الموسيقى العربية» 2012، كان نجم شيخاً عجوزاً قليل الحركة، لكنه أصرّ على حضور أمسيتي لجذب الإعلام والمسؤولين إلى الحضور إلى دار الأوبرا. من هنا جاء التركيز الإعلامي والمؤسسي على الحفلة. هذا الموقف والكثير من المواقف الأخرى لا تغيب عن ذهني لحظة، وأنا أحمله إلى المدافن في مسيرة شعبية، ولا حين حظيت بأن يسمع منّي لحني وغنائي لقصيدته «غنوة سلام» التي ودّعته بها في تأبينه، وكانت آخر ما سمع من ألحان لقصائده».




قريباً في لبنان

قبل فترة، اختارت وزارة الثقافة والسفارة المصرية في روما أن يغنّي محمد محسن في ذكرى الثورة للجالية المصرية في إيطاليا. كذلك، اختاره السفير المصري في بيروت أشرف حمدي للغناء في لبنان. تكررت تجربة الغناء في لبنان مع مرسيل خليفة و أميمة الخليل على خشبة قصر «الأونيسكو» قبل أشهر. عن هذه التجربة، قال محسن بأنها كانت الأهم له، مشيراً إلى أنه كان يحلم دوماً بأن يسمعه مرسيل خليفة. وعلى المسرح نفسه، سيقيم حفلة في الأول من أيلول مع الأوركسترا الوطنية اللبنانية للموسيقى الشرق – عربية، بقيادة المايسترو أندريه الحاج، وفي نهاية هذا الشهر في «مسرح المدينة».