في «فندق بودابست الكبير»، يواصل ويس أندرسون (1969) استلهام قصصه من مصادر متنوّعة، أهمّها الحياة الشخصية والكتب المفضلة والأفلام القريبة من مزاجه الخاص، إضافةً إلى تراكم من الأسفار واللوحات التشكيلية والذائقة الموسيقية. نحن في بلد افتراضي شرق أوروبا يدعى «زبروفكا». نتابع قصة مسيو غوستاف (رالف فينيس)، كبير الحجّاب في فندق شهير، وصديقه العامل البسيط زيرو مصطفى (طوني ريفولوري) اللذين يخوضان مغامرات لا تنتهي إثر جريمة قتل وسرقة لوحة ثمينة من عصر النهضة.
الاثنان مأخوذان عن شخصيات حقيقية من محيط أندرسون الاجتماعي والعائلي المتعلّق بزوجته البيروتية جمان معلوف. يُضاف إلى ذلك بعض كتابات شتيفان تسفايغ أحد أدباء ويس المفضّلين.
كالعادة، يخلق المخرج الأميركي عالماً زاخراً بالعلاقات والمفارقات والألوان والديكورات المرتّبة والفرجة المرسومة بدقّة والكثير من اللقطات العرضية والعمودية. إلا أنّه في هذا الفيلم، ينتقل إلى مستوى أعلى من الهوس الفني. خلق بلد افتراضي منحه حرية مطلقة في إطلاق العنان لخياله بصرياً ودرامياً: الحبكة أكثر تعقيداً والديكورات أضخم والشخصيات أكثر عدداً وغرائبيةً. هي فترة الثلاثينيّات المحبّبة لدى أندرسون الذي يميل إلى البراءة والمبادئ المندثرة في بناء العلاقات، خصوصاً العاطفية منذ باكورته الطويلة «بوتل روكيت» (1996 ــ أنتوني وإينيز) وصولاً إلى «مملكة بزوغ القمر» (2012 ــ الطفلان سام وسوزي). هناك أيضاً الصداقة غير المشروطة بين غوستاف وزيرو، ما يذكّرنا بأنتوني وديغنان وبوب في الشريط الأول. نحن، إذاً، بصدد نوستالجيا سينمائية تحيّي الفن الخالص والجمال والقيم الغابرة، متحوّلة إلى فيلم مغامرات بعناصر كلاسيكيّة كالمطاردات والهروب من السجن.
إنّها كذلك الحقبة نفسها التي قدّم فيها الفرنسي جان رينوار شريطيه الخالدين «الوهم الكبير» (1937) و«قواعد اللعبة» (1939)، وهو مخرج أندرسون المفضّل، ويعدّه أحد أبطال تكوينه السينمائي. رينوار كان أحد الممهّدين للموجة الجديدة التي أثّرت في أعمال ويس بوضوح من خلال المقاربات الشخصية للمواضيع وخلق العوالم الخاصّة من منظور مزاجي بحت لا يكترث حتى لملاحظات فائز بالأوسكار مثل جيمس ل. بروكس، كما حدث في البدايات بعد Bottle Rocket. لاحقاً، سيقدّم رينوار فيلماً مؤثّراً آخر في وعي أندرسون صوّره في الهند هو «النهر» (1951)، ليفعل أندرسون المثل ويحطّ الرحال في موطن بوليوود منجزاً Darjeeling limited عام 2007. هنا الإهداء لبطل سينمائي آخر هو المخرج الهندي الراحل ساتياجيت راي. هكذا، تحضر أسماء كبيرة من الموجة الفرنسيّة في سينما أندرسون مثل تروفو وغودار (في «بيارو المجنون»، يهرب العاشقان من محيطهما كما في «مملكة بزوغ القمر») ولوي مال وعمله مع جاك إيف كوستو في «العالم الصامت» (1956) الذي حبّب ويس بالحياة المائية، فبات التصوير تحت الماء إحدى لقطاته المفضّلة. توّج ذلك لاحقاً في «الحياة المائية مع ستيف زيسو» (2004) والعبارة الشهيرة «أتمنى أن أتنفّس تحت الماء». أندرسون «سينيفيلي» كبير، يتقاطع في حبّه للأفلام القديمة مع المعلّم سكورسيزي. ثمّة إعجاب متبادل بين المخرجَين مع تباين واضح في الرؤية والأسلوب. يُضاف لأبطال أندرسون بيتر بوغدانوفيتش وكارول بولارد، وأدباء مثل جول فيرن، وروالد دال الذي يقترب من أندرسون في سخريته اللاذعة في الحوار. عبارات بسيطة تحمل كمّاً من البلاغة، تتهكّم فيها الشخوص بمنتهى الجديّة. نجد الأطفال بلغة الحكماء والبالغين بسلوك الأطفال.
النزاعات العائلية تيمة دائمة في نصوصه المبنيّة وفق بنية هندسيّة مدروسة كما حركة كاميراه. الفرد المأزوم جزء من مجموع ليس أفضل حالاً منه. يسعى للسكينة والتصالح مع نفسه ليعبر نحو الخلاص العام والسلام الجمعي ولو أظهر خلاف ذلك. على الطريق أثمان درامية وجنازات أبطال في تأكيد طبقات السواد الكامنة تحت غلاف الفكاهة والتهكّم.
كل ما سبق يتفاعل داخل أندرسون ومع مخيّلته لينتج نمطاً سينمائياً خاصّاً به. «ستايل» متفرّد يجعله من المخرجين الذين تُقرأ الفيلموغرافيا الخاصة بهم كوحدة مترابطة في التيمات والتفاصيل والأسماء. في «راشمور»، يبدأ هوس الترتيب واللون والحركة، ثمّ ينتقل إلى مستوى أرفع في «الميزانسين» والتشكيل مع «الحياة المائية مع ستيف زيسو»، وصولاً إلى الاشتغال الأكبر في «فندق بودابست الكبير» من دون إغفال فيلم الأنيماشن الوحيد الذي أنجزه «السيّد فوكس المدهش» (2009). هذه العناصر ليست مجرّد خيارات فنيّة أو سمات محدّدة لأندرسون، بل يعتبرها جزءاً من تركيبته الشخصية وبنية السينما وطريقة فهمها وتقديمها. ثمّة تفاصيل صغيرة يمكن ربطها لفهم أكبر: في «عائلة تتنباوم»، يهرب الصغيران مارغوت وريتشي من المنزل للتخييم كما فعل سام وسوزي في «مملكة بزوغ القمر». فندق «ليندبيرغ بالاس»، مكان إقامة الأب رويال (جين هاكمان) يحمل ملمحاً بسيطاً من «فندق بودابست الكبير». في النهاية، يموت رويال بعد أن ينقذ العائلة، على عكس «دارجيلنغ ليمتد» إذ يبدأ تفكك العائلة من جنازة الأب.
هناك ممثّلون مفضّلون يحضرون دائماً، على رأسهم بيل موراي وزميل الدراسة أوين ويلسون وثانويون كثر. نجوم يظهرون بأدوار صغيرة أحياناً، لكن بحضور مختلف شكلاً وأداءً. هي براعة أندرسون في كتابة شخصيّات بهيّة، وأسلوبه في العمل، والحميميّة التي ينجح في بثّها وسط الجميع. هو التحضير الدقيق الأشبه بعمل وثائقي تفصيليّ إلى جانب الشريط الروائي.



The Grand Budapest Hotel: «غراند سينما» (01/209109)، «أمبير» (1269)