في واحدة من قصائده الأحدث والمنشورة في العدد الثالث من مجلة «كيكا» بعنوان «أول الأرض حلم»، يقول أدونيس: «سرطاناتُ هذا الزمان – أحافيرها وأظلافها وأنفاقها وسلاسل أعضائها/ تتشابكُ من شاطىء إلى آخرٍ/ تهيّأْ/ وهيّىءْ لعينيكَ/ مجراهما/ لا لتحلمَ/ لكن لتبكي/ ولتبنيَ جسراً من الدمع بين الحياة وأنقاضها/ إنه العصر – أوركسترا/ لمثاقبِ نفطٍ وغاز/ لأنابيب موصولةٍ/ بالكواكب، أوركسترا/ إليكتروناتِ علمٍ وفتْكٍ/ إنه العصر – سوقٌ/ لفنّ التوّرم، للنفخ في عنق/ الأرض/ خنقٌ ولغوٌ/ ولا دفة/ لا سفينهْ/ من جديدٍ/ يقول الزمانُ لتفاحة الصين: ها آدمٌ/ يؤكد أن الحقيقة مثل الغواية شعرٌ/ آهِ كلّا/ لم تكدْ تولد المدينهْ».
القصيدة مكتوبة بإيعاز من زيارة الشاعر للصين ومدينة شنغهاي، وقد تذكّر قراء كثيرين بقصيدة «قبر من أجل نيويورك» لناحية اللغة الواقفة أمام مشهديات «العصر» الطاحنة التي تترقّق أحياناً في مديح شنغهاي مقارنة بالقسوة التي وُصفت بها نيويورك، لكن إيراد هذا المقطع يثير ملاحظاتٍ من نوع آخر عن نبرة أدونيس وصوته الشعري الذي يبدو أنه لا يتغير كثيراً. لقد تطور هذا الشعر طبعاً، لكنه ظل على علاقة وطيدة مع فكرة الشاعر المبكرة عن الشعر، وظل معجمه يمزج بين الرصيد الذكي والخصب للغة وتراثها، وما تقترحه الحداثة، وانغماس أدونيس نفسه في صناعتها.

تجربته ظلّت مخلصة لمقدمات نظرية وفكرية طرحها في مؤلفاته وأبحاثه النقدية

لا يمكن اختزال تجربة أدونيس الخصبة والواسعة والمتعددة بمقارنة عاجلة بين قصيدتين، واستنتاج أن الشاعر لم يتغير، إلا أن ذلك لا يمنع في الوقت نفسه من إعادة اختبار الانطباعات التي يبثها شعر أدونيس لدى القارئ اليوم، وهو شعر مرّ بمراحل، وبلغ ذروات عديدة.
تعود هذه الانطباعات مجدداً مع صدور الجزء الرابع من «الأعمال الشعرية الكاملة» التي بدأت «دار الساقي» إصدارها قبل عامين. يضم هذا الجزء دواوينه ونصوصه التي نشرت بين 1982 و 1994، ومنها قصيدة «الوقت» التي لا يزال كثيرون يحفظون مطلعها: «حاضناً سنبلة الوقت ورأسي برجُ نارْ/ ما الدمُ الضاربُ في الرمل، وما هذا الأفولُ/ قلْ لنا، يا لهب الحاضرِ، ماذا سنقولُ؟/ مِزَقُ التاريخ في حنجرتي/ وعلى وجهي أماراتُ الضحيّه/ ما أمرَّ اللغة الآن وما أضيق باب الأبجديّه».
لعلها المرة الثالثة أو الرابعة التي تصدر فيها طبعات كاملة لأعمال أدونيس الشعرية، كما أن الشاعر نفسه اشتغل على واحدة من تلك الطبعات تنقيحاً وحذفاً وإعادة نظر في قصيدة النثر، وكتب يومها مقدمة يشرح فيها أسباب قيامه بذلك. نتذكر كل ذلك، لنقول إن أدونيس هو أدونيس، وتجربته الشعرية ظلت مخلصة لمقدمات نظرية وتنظيرات فكرية طرحها في مؤلفاته وأبحاثه النقدية وحواراته. وبدا ذلك أحياناً (أو غالباً) عائقاً أمام ذهاب صاحب «الثابت والمتحول» إلى تحولات ومجازفات مختلفة عما جرّبه واستشرفه. لقد ظل جديد أدونيس يسير تحت راية قديمه، وظل القديم يعتني بجديده، ويشرف على مصيره، ويحدد سياقاته ويعقلن تهوراته أيضاً. هناك روحية شاملة تسري في هذا الشعر الذي لا تبتعد أحدث قصيدة فيه عن أول قصيدة. لا نتحدث هنا عن تشابه وجمود شعري طبعاً، بل عن وعي شعري ونقدي ظل يطالب بالتجديد، ولكن النص الذي أنتجه هذا الوعي عانى من تقصير في الاستجابة لهذه المطالبات المشروعة، أو ساهم في لجمها وتقييدها. وفي الوقت الذي «أطاع» فيه شعراء كثيرون وأجيال شعرية دعوات الشاعر إلى كتابة نصوص تجريبية ومغامرة جريئة، وبدا فيها أن عدداً من شعراء الطور الثاني والثالث للحداثة التي بدأها أدونيس وجماعة الرواد نجحوا في تكسير المفردات الكبرى لتلك الحداثة، وتحويل الشعر نفسه إلى مسألة شخصية وعابرة، وتنزيل مهنة الشاعر إلى مرتبة المواطن العادي والصغير، فإنّ «مهيار الدمشقي» ظل محتفظاً بصفة «شاعر الرؤيا» ونبيها.
توصيفٌ مثل هذا ليس القصد منه التقليل من أهمية أدونيس ودوره الأساسي في الشعرية العربية الحديثة، بل هو إشارة إلى أن النص الأدونيسي صار وراء التجارب الجديدة. لم يحدث ذلك لأنها أفضل أو أحدث، بل لأنها صارت مختلفة وقادرة على خلق سياق كامل من دون الحاجة إلى مساهمة ملموسة ممن شجّع هؤلاء على ذلك، وأدونيس في طليعتهم. هذه ملاحظة عامة ليس هنا مجال للتوسع فيها، ولكنها تطلّ برأسها مع تتابع صدور الأعمال الكاملة لأدونيس، وأحياناً مع مجرد ذكر اسمه في سياق آخر، كما هي الحال في موقفه من الربيع العربي.
كأن الشاعر الذي ملأ دنيا الشعر وشغل ناسه، تحول مع الوقت إلى تراثٍ حي ومجايلٍ لما يُكتب حوله. لا تزال تجربة أدونيس حية، إلا أنها تحيا بجوار حياةٍ شعرية تحدث في مساحات أخرى. هذا ليس حكم قيمة أو تفضيلاً بين المساحتين والحياتين، بل مجرد أفكار يمكن الدفاع عنها والبحث بجدية فيها، ويمكن أن تكون مجرد أفكار عابرة وسريعة تخطر في بال كثيرين حين يسمعون عن صدور جزء جديد من أعمال الشاعر، ثم ينكبون مجدداً على القصائد غير الأدونيسية التي يكتبونها.