حسام حنوف *لعل وصف شاعر بالنبوءة لا يختلف عن وصف نبيء بالشعرية. كلاهما يرفض صفة الآخر. لا النبيء يريد لأتباعه أن يقفوا عند حدود اللغة، ولا الشاعر يريد لقرائه أن يتجاوزوا حدَّ الجمال. لكن حرص الاثنين لا يصمد طويلاً حتى في نفس كل منهما، فكما يُطرَبُ مريدو النبيء لكلماتِه وخطبه طربَهم للشعر، كذلك يلتزم مريدو الشاعر مدرسته وروحه التزامهم بالعقيدة.

وخير مثال عن الأنبياء في هذا المقام هو النبيّ محمّد الذي حرص على نفي الشعرية عن كل ما قاله أو جاء به. كانت اللغة العربية وقتها لغةً شعرية غنائية بامتياز، وكانت لغة النبي القرشي لغة بكراً ونقية خالصة من كل لحن ومن كل عُجمة. لغةً عالية تطرب سامعها كأنه يسمع أعذب الشعر، والنبي خير من يعرف هذا، وهو القائل في الشاعر أمية بن أبي الصلت الرافض للإسلام قولةً جعل فيها لشعر أمية ما ليس لأمية نفسه: «آمنَ شعرُه وكفرَ قلبُه».
ما أراد النبي العربي للعرب أن يقفوا مما جاء به موقفهم من الشعر. أراد لهم أن ينفذوا إلى المعنى، إلى حقيقة الكلمة لا مجازها، إلى واقعية النص لا شعريته، لم تكن اللغة الإسلامية رغم علوّها وكثافتها وأصالتها وسيلةً بذاتها، لم يردها نبيها العربي أن تكون ذلك، بل أرادها حاملاً للرسالة والدعوة الجديدة. وأما الحكمة من العناية الفائقة باللغة في الإسلام فيمكن وضعها في سياق العناية بالشكل باعتبارها جزءاً من العناية بالمعنى، وعلى ما يقول الأدباء «لا يوجد مضمون جيد في شكل رديء». لعل هذا أدقّ مما يقال بأن الحكمة من اللغة الإسلامية العالية كانت في إتيان العرب من حيث يحبون ومحاباة شغفهم باللغة وفنونها.
مئة يوم يا نبيّ الشعراء.
إذاً، كرفض الأنبياء للشعر، سيرفض الشعراء النبوة. سيرفض الشاعر أن يكون ذا رسالة. قد يجعله هذا إصلاحياً. الشاعر اليوم يعتبر ذلك سبّة. أنسي الحاج لم يطرح نفسه مصلحاً لكنه كان كذلك، ربما كان كذلك رغماً عن شعره، هو مصلح وذو دعوةِ خير وجمال ومحبة وصفح وسماحة بقدر ما هو ذو دعوة ثورة وتمرد وغضب، قصائده التي ترتدي جلد الوحوش البرية الحزينة والجريحة وتنتقم من الغنائية والراحة والأمان، إنما تفرد لقارئها كوناً من الأنسنة والأنس والأنوار. لم يكن أنسي الحاج ابناً باراً للالتزام والرسالات لكنه في عدم التزامه ألزم مريديه بالجمال. كان كمن يبطّن غرفتَه بالستائر السوداء ليحجب عنها الشمس ثم يتركها وينام على سطحها. كان كمن يخبط روضةَ زهور، فإذا بكل وردة داسها أنبتت سبعين وردة. كان أنسي الحاج أشبه بعصفور جمع القش اليابس بمنقاره الصغير ليحضن في عش القش تحت الزغب الهش جمرات تفقس حرائق وحمماً، فإذا بالعش اليابس يورق ويورف ويزهر ويندى محتضناً أطفال العالم بين قشّاته الحانيات. ليس الشاعر نبيئاً. ليس النبيء شاعراً. لكننا نحن من نقرأ النبيء بغنائية الشعر ونردد القصيدة بيقين المؤمن.
مئة يوم يا شاعر الصحافة.
من أسماء دواوينه يمكنك معرفة القصة كاملةً. في ديوان «لن»، بدأ بحرفين ينفيان الفعل في الزمن الآتي، ثم راح يفكك الحرفين في كل اسم جديد لديوان جديد، حتى انتهى من الأسماء والدواوين وصار الاسم والديوان والشعر والصحافة انكشافاً واحداً جريئاً وبسيطاً كشمس لا تستحي أن تستحم عاريةً على شطآن النهار أو أن تجفف نفسها على زجاج النوافذ وشرفات البيوت بل حتى أن تعلّق أشعتها النديّة على رموش النُّعَّس والنواعس لتجفّ الأشعة ولا تجف.
أقرأ أسماء دواوينه فأعرف أنه مع كل ديوان جديد، كان يفكك ويبسط ذاته الشاعرة للضوء والريح. فالشعر، ومع الزمن، لم يعد عنده كما كان عنده وكما ما زال عندنا. أنسي ومنذ سنين أقلع عن غربلة قريحته. صار يفتحها بكل ما فيها. منذ ذلك الوقت وهو يهوّيها، يشمّسها، يعقّمها إذ يكشفها للغبار الجارحة ذراتُه، يخلّدها إذ يفغَرها دوّامةً ليوميات العرب البؤساء والرؤساء والعشاق والمجرمين، يشقّ قريحته ليتغلغل فيها الضوء وتندسّ أقلامنا المسنونة في كل خَلّةٍ من خلالها. يشرّحها من دون أن يجرحها، يفصل أجزاءها ولا يفتّتها، يقلّبها لا يقسّمها، من حرفي لن إلى كلمتي «الرأس المقطوع»، فثلاث كلمات «ماضي الأيام الآتية» فستّ كلمات «ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة»، فنزولاً مع خمس كلمات «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» فوصولاً لكلمة «الوليمة». من حرفين إلى ست كلمات إلى كلمة، فكلمات كلمات كلمات فخواتم خواتم خواتم. أليس سهلاً رؤية أنسي يطهّر مستودعه الشعري، يسرع لفتح الباب وهدم الجدران؟ لم يعد يريدنا أن ننظر إلى شعره من ثقب الباب ولا عبر النافذة. لقد فتح لنا كل شيء، كشف لنا عن معمل الشعر، عن المصنع، عن القريحة. ولأن العمر يطهّر، كان شعر أنسي عبر العمر يتضح ويستمر في اتضاحه حتى بدت القريحة الشعرية أشبه بسترة خلعها فبدا وجهها الباطني. قريحة أنسي الحاج كذلك. أنسي خلع قريحته وارتداها بالمقلوب. بطانتها صارت معطفه. والمتتلمذون على يديه ومريدوه المؤمنون بنبوّة شعره سيكتبون، من دون أن يشعروا، قرائحَهم. سيخلعونها بالمقلوب ويرتدونها. سيعلنونه رائداً لقصيدة القريحة. مريدوه المؤمنون بصحافيته الشعرية لن تأخذهم يومية الصحافة بل لحظية الوجع وآنية الدهشة، وقد يسأل جيل جديد من سلالته عن حينٍ تستقيل فيه الصحافة الورقية من أعباء الخبر العاجل والنبأ السريع ومن لهاث السبْق وحمّى الحصرية.
لقد رأى الشعرُ أنه غير ذي حاجة ليكون ديوان العرب. ثم ملّ من أغراضه ووصفه وأثقلته حتى أوزانه الجميلة وضاق حتى بقوافيه المدللة البهية ولم يتشبث حتى بغنائيته الغالية. فمتى يُثقلُ النبأ السريع كاهلَ الصحافة ومتى تضيق بدعايات الساسة والتجار التي تشبه شاشات التلفاز وتناسب زحمة المواقع ووقاحتها.
أنسي الحاج تخفّف من الشعر بالصحافة ومن الصحافة بالشعر، ومنهما بالجمال وبهما من العروبة القاتلة، خلع عنه فرحه وأمانه وحرفةَ الصانع وراح يكمل خالعاً عنه كل ما استطاع. كأنه يريد أن يكون روحاً لا كائن لها. شهوة بلا جسد. رؤية مرئية لا بعين رائية. عطراً لا زهرة له. ضوءاً مقطوع الجذر عن كل نجم وكل نار وكل سراج.
مئة يوم يا أنسي الحاج. فالسلام على اللغةِ لعبةَ طفلٍ حكيمٍ وصنعة مفكّر يضحك ملء مكتبته الغابة. السلام على الشعر سكرة مفجوع يغنّي للنسيان ورحلةَ معتزلٍ يسابق الليل البري ليروض صهيلَه الغادر. السلام على الجماليات طالعات من هالات السهر حول أعين مظلومات الأرض يغلسن مطارح الفرح بالعبرات وعلى جناح السرعة يلهثن محمومات وراء النعمى. السلام على العابرات متكاثرات يفاخرن المكان بانطباع الضوء ونقش الأثر لا على العيون بل على دمعة توشك أن تنزل ولا تنزل. السلام على صباح السبت معتكفاً عن الشروق لأن «خواتم3» لم تسرّح شعرها عند ساقية الليلة السابقة. السلامُ على أنسي الحاج شاعراً يترك شعراً يعشقه البعض ويرفضه البعض ويسرقه البعض، والبعض يبكي له وعليه كأن الشعر بعد الشاعرِ قَصَاصٌ وانتقام وعذاب. السلام على مئة يوم عاشها لنفسه، أنسي الحاج، بعد آلاف أيام، لنا عاشها...
السلام على مئة نصّ من «خواتم 4».
* شاعر سوري