لأكثر من سبب، يمثّل المعرض الاستعادي لأعمال النحات المصري عبد الهادي الوشاحي (1936 ـــ 2013) في القاهرة حدثاً مميزاً. الفنان الذي رحل في آب (أغسطس) الماضي، كان أحد أبرز المعلمين المعاصرين لفن النحت، تحديداً من الذين لم تتح لهم فرصة عرض أعمالهم في صالة كبيرة، بسبب رأيه بالمؤسسة الثقافية الرسمية. لذا، يعدّ المعرض الذي تحتضنه قاعة «أفق» في «متحف محمد محمود خليل» الأوّل من نوعه، يضم أهم أعماله التي تُلخّص نصف قرن من حصاد مشواره. للمرّة الأولى، احتضن المعرض الاستوديو الخاص بالنحات الكبير، إذ تعرّف الجمهور إلى محرابه الشاهد على ميلاد أعماله، إلى جانب جزء من مكتبته الخاصة التي تزخر بكتب تظهر اهتمامه بتاريخ الفن المصري القديم. كذلك، شهد المعرض إزاحة الستار عن تمثاله الرائع لـ«عميد الأدب العربي» طه حسين في أول عرض له بعدما استغرق العمل عليه نحو 15 عاماً.

وكان الراحل قد اشتبك في نزاعات قضائية مع وزارة الثقافة المصرية خلال حقبة فاروق حسني بشأن أحقية كليهما في التمثال الذي كلفته الوزارة إنجازه ثم تقاعست عن عرضه بعدما تأخر الفنان في تنفيذه. ما يزيد من أهمية الحدث، هو إصدار «قطاع الفنون التشكيلية» كتاباً توثيقياً يوجز تاريخ الوشاحي ومشواره. يتضمن المؤلّف دراسة مُوَسَّعة بالعربية والإنكليزية، من إعداد الفنان إيهاب اللبان ويشتمل على دراسة نقدية مطوّلة للأكاديمي ياسر منجي، تنطلق من سمتي الحدّة والمزاج المتطرّف للفنان. وبحسب الدراسة، فقد كان حاداً في فنه، ولم يقبل إلا بالكمال، كما كان مفتوناً بحديثه عن القيم الجمالية المطلقة التي سعى إلى بلوغها وكرس حياته لإدراكها. أوّل ما يلفت في أعمال الوشاحي هو التأثير الطاغي للنحات المصري الرائد محمود مختار (1891_1934)، من حيث اعتبار الفن أداة للتغيير. أخلص الوشاحي لفكرة الفن الملتزم وطوّرها، بحيث لم تعد ذات طابع ايديولوجي دعائي لأنه منحها، شأن مختار، الأفق الجمالي الذي يخلدها كما في تمثال «شهيد دنشواي» الذي نفّذه عام 1963 كمشروع تخرّج. انفتح الوشاحي على مختلف مدارس النحت، كذلك تحرر من الانسحاق أمام عظمة مختار وتجلى ذلك في المحاورات الدائمة التي كان يجريها بشأن أعماله.


تأثر بأعمال الألماني
إرنست بارلاخ والروماني قسطنطين برانكوزي


كانت أقرب إلى مراجعات تؤكد أصالة المعلم والمسافة التي اتخذها الوشاحي منه لتقديم نموذجه الخاص المتمرّد على النهج الأكاديمي. هذا ما يشير إليه منجي عبر تمثال مبكر له بعنوان «البرد» (مقتنيات متحف الفن المصري الحديث)، الذي نفذه بأكثر من خامة ويعكس «قلقاً روحياً». استمر القلق معه طوال مسيرته وانعكس بشكل خاص على أعماله التي تَلَت «القفزة المستحيلة» (نحاس مطروق_ 1975). في العمل الأخير، توصّل إلى صيغة جمالية متفردة طبعت منحوتاته وصاحبت قراره بالعودة من إسبانيا حيث كان يعيش للاستقرار الدائم في مصر. وقد أقام في إيطاليا واسبانيا إلى أن حصل على درجة الأستاذية من «أكاديمية سان فرناندو للفنون الجميلة» في مدريد عام 1978، قبل أن يعود إلى القاهرة.
تأثر هناك بأعمال الألماني إرنست بارلاخ، والروماني قسطنطين برانكوزي خصوصاً في قيمتي الاستطالة والسموق، وملامسة السطح النحتي وتوازن الكتلة فوق القاعدة، والاسترسال في الفراغ الأعلى إلى جانب الانسيابيّة. كلّها عناصر تجلت في تماثيله «إنسان القرن العشرين» (بوليستر 1990) و«رجل وكرة في الفراغ» (برونز)، وتمثاله الأشهر «الصرخة» (1980 _ موجود في إسبانيا) المصنوع من الجبس، وكذلك في تماثيله «ذات السبعة عشر» (برونز _2006) و «المواجهة» (برونز 2005) اللذين عرضا في المعرض. تشكّل كلّ هذه الأعمال تنويعات على مفهوم اختراق الكتلة النحتية للفراغ رأسياً، وهو هاجس حكم أعمال برانكوزي. وكما يوضح منجي، فإنّ تجارب الوشاحي لم تصل إلى معالجات التفريغ القصوى إلا بالاتكاء على مرجعية النحات الإنكليزي هنري مور التي عكستها تماثيل الوشاحي «المرأة عندما تفكر» و«جسر الحياة» و«أميرة». وتأثر بوضوح بأعمال جياكوميتي حيث انصهرت الحدود الفاصلة بين التعبيرية والشكلية، وتجلى ذلك في تمثاله الشهير «فتاة جالسة». وأكثر ما يلفت النظر في المعرض، قدرة الوشاحي على تطويع كل هذه المرجعيات مع رؤاه الفنية الذاتية. انطبعت أعماله بحس صوفي وروحي لافت جعلها أقرب إلى حوارات خالصة مع الخامات التي اشتغل عليها ومنحها سمة «الانصات» لروحه المتعففة والقلقة التي جعلته مثال «النحت الطائر» بتعبير الناقد الراحل محمود بقشيش. تعبير ينطبق بالأساس على مجموعاته الشهيرة التي بدأها بتمثال «المرأة والبحر» (بوليسترــ 1972). بعدها، تجلّت سمة مركزية طبعت أعماله تتعلق بحضور «الأنثى» كما يشدد على ذلك ياسر منجي محرر الكتاب. يفرد الكتاب مساحة كبيرة لتمثال «طه حسين» (برونز ) الذي مثل ظهوره في المعرض حدثاً استثنائياً بعد سنوات من حجبه. يلخّص «طه حسين» بجدارة كل القيم الجمالية والمراحل التي ميّزت تجربة الوشاحي. تحتدم التناقضات هنا بين التولد والتلاشي والتحليق والتقيد إلى جانب إعادة الاعتبار لتقنية التفريغ لتلخيص مكمن فجيعة العميد. ينطوي التمثال على حلول تصميمية مدهشة تجلت في شكل الجلسة، مروراً بانحناءة الجذع إلى استشعار رغبة النهوض، فضلاً عن إشاحة الرأس إلى الأعلى ثم المقابلة بين التأهب للشروع في الفعل والرسوخ في الاستقرار. إنها باختصار عملية تأويل فني بالغة القوة لمشروع طه حسين الفكري.



معرض استعادي لعبد الهادي الوشاحي: حتى 25 حزيران ــ «أفق» في «متحف محمد محمود خليل» (القاهرة)