إذا أراد أحدهم التلصص على النمط السينمائي الذي يسيطر على أهواء المخرجين في أي مهرجان، لا بد من الغوص في أشرطة خارج المسابقة. هنا لا مكان للمنافسة ولا حاجة لإعادة صوغ الأفكار لتنال رضى لجنة التحكيم. المخرجون عراة الفكر والأسلوب، بلا أقنعة ولا روتوش.
اللافت في لائحة الأشرطة التي تضمّها تظاهرة خارج المسابقة في «مهرجان الفيلم اللبناني» أن لفيليب عرقتنجي ما يقارب ثلثها، هو الذي وضع في رسم المشاهدة عشرات أعمال وثائقية قبل أن ينتقل إلى الأشرطة الروائية الطويلة التي لم يخل بعضها من التوثيق أيضاً. يأتينا السينمائي اللبناني بثلاثة أعمال اتخذت من الذاكرة عنواناً جامعاً لها. صوِّرت بعيد انتهاء الحرب الأهلية ولم يحررها إلا بعد مرور أكثر من عقدين، علها تكون متصالحة أكثر مع الواقع بعد إسقاط الانفعال بمرور الزمن. العمل الأول «من عيون الأمهات» (54 دقيقة ـــ 10/6) يقتحم ذاكرة الحرب من عيون النساء اللواتي عشنها كما لم يعشها المقاتلون في ضفتي المعارك. في قلبهن كانت المأساة التي تجمع ما فرّقته خطوط التماس.
من الأعمال التي تستحق المشاهدة شريط «رسالة
إلى طيار رافض»
أما في «طيران حر» (18 د ـــ10/6 )، فيأخذ الذاكرة في رحلة نوستالجية لتطرح في قالب من الكوميديا السوداء قصة المظلي الأول في لبنان. عمله الأخير «بيروت أحجار وذكريات» (18 دقيقة ـ 10/6) المهدى إلى ناديا تويني وبيروت، يقدّم صوراً نادرة من الثانية على وقع قصائد الأولى. وإذا كانت لعرقتنجي المساحة الكبرى في التظاهرة، فإن للأعمال التجريبية حصة أيضاً من بينها فيلمان لغيث الأمين ومي قاسم. ما يجمعهما هو اعتمادهما السينما كجسد للموسيقى. يحاول الأمين في «مشروع الشيخ إمام» (8د ـ 8/6) أن يقدم أغنية «البحر بيضحك» الشرقية بامتياز على البيانو، صانعاً من هذا التناقض لوحة موسيقية جميلة. أما مي قاسم، فأدخلت في شريطها «96.2.1» (11 د 23 ثانية ــ 7/6) المشاهدين إلى العالم الراديو وطريقة عمل منسق الموسيقى في الإذاعة، ضمن أسلوب عبثي في التصوير والمونتاج. لم نفهم الحاجة الى كل هذا اللاثبات في الكادرات وتركيز العدسة، فكانت خياراتها التصويرية غريبة إلى حد المغامرة. ومن الأعمال التي تستحق المشاهدة شريط أكرم زعتري «رسالة إلى طيار رافض» (34 دقيقة ـ 6/6) عن طيار إسرائيلي رفض قصف مدرسة ثانوية في صيدا بالقنابل أثناء الاجتياح عام 1982. الجميل هو استخدام المخرج وسائط فنية عدة وانتهاجه أسلوباً تدريجياً في بناء الرسالة، فلا يمكن فهم مضمون العناصر وترابطها إلا في النهاية.
من الأعمال السياسية، يبرز «الله أكبر» (10 د 19 ثانية ــ 7/6) للألماني كاي جيرو لانكه الذي يتحدث عن قصة شاب من المعارضة السورية يحاول إنقاذ عجوز تتعرّض لقنص أمام ابنها من قوات الجيش السوري، فيؤمن مقاتلو المعارضة التغطية النارية ليتمكن من سحبها. يقدّم العمل مشاهد ولقطات تصويرية فنية متقدمة. لكن المشكلة أنّ المخرج لم ينجح في تفادي بعض الأخطاء الإخراجية وبعض اللقطات «الكليشيه». أما من الأعمال الاجتماعية التي تتحدث عن علاقة بين ثنائي، فنحن أمام شريطين متناقضين في الأسلوب. الأول هو «باركينغ» (40 د ـ 8/6) لسلمى شدادي وفلوران منغ وصوِّر في المساحات التي يرتادها العشاق في منطقة ضبية، ويتحدث عن صبية وشاب من الطبقة الفقيرة يجمعهما الحب وتفرّقهما كثير من وجهات النظر حول الحياة والمستقبل، فضلاً عن انتمائهما إلى بيئتين مختلفتين دينياً واجتماعياً. غير أنّ العمل يعتمد كلياً على السكريبت الذي بدا مطولاً ومملاً يخلو من اللمسات الإبداعية والعناصر السينمائية التي تجعل لأي عمل قيمة حقيقية كالتصوير والموسيقى وتماسك الحبكة.
العمل الآخر هو «صيف 91» (22 د ـ 7/6) لنديم تابت وكارين وهبة. إنه أحد أهم الأفلام خارج المسابقة، يتحدث عن شاب وامرأة ينتميان إلى الطبقة البورجوازية، ويروي كل منهما طريقة تعارفهما، وأحداثاً مشتركة حصلت معهما في صيف ١٩٩١، وما تحمله تلك الذكريات من مآس عاشها كل منهما على طريقته. يقوم الشريط أيضاً على السكريبت أو التسجيل الصوتي، لكنه يقدم صورة متحرّكة تجعل النص ينساب بطريقة سلسلة، مع موسيقى كان ممكناً أن تكون أفضل، لكنها كفيلة في إضافة مزيد من التشويق على الحبكة المتماسكة أصلاً. من الأفلام المشاركة من خارج الحدود «رحلة في السينما التجريبية في لبنان» (70 د ـ 9/6) لميشال امارجيه وفريديريك دوفو. العمل رحلة استكشاف للسينما اللبنانية بدأت بتقفي أثر صديق لبناني انتحر في ظروف غريبة، لنرانا أمام حوارات مع مخرجين لبنانيين معروفين أمثال محمود حجيج وياسمين خضر، فيتحول العمل الى حوار حول الخيارات الإخراجية. وإذا كان العمل يهمّ المخرجين أكثر مما يهم المشاهدين، الا أنه يصب في رؤية منظمي المهرجان بأن يكون «هايد بارك» سينمائياً، خصوصاً أنّه استطاع دمج أعمال متباينة في المحتوى والأسلوب وطبعاً في المستوى.